23 ديسمبر 2024
الفاتيكان

إليكم رسالة البابا فرنسيس لليوم العالميّ للسّلام 2025!

تحت عنوان “أَعْفِنا مِمَّا علَينا، وامنحنا سلامك”، صدرت ظهر الخميس رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالميّ الثَّامن والخمسين للسَّلام الّذي يُحتفل به في الأوّل من كانون الثّاني/ يناير ٢٠٢٥.

وفي رسالته كتب الأب الأقدس، بحسب “فاتيكان نيوز”: “في فجر هذه السّنة الجديدة الّتي أعطانا إيّاها الآب السّماويّ، زمن اليوبيل المكرّس للرّجاء، أتقدّم بأصدق تمنّياتي بالسّلام لكلّ امرأة ورجل، ولاسيّما للّذين يشعرون بأنّهم مُستنفدون بسبب حالتهم الوجوديّة، تحكم عليهم أخطاؤهم، ويسحقهم حكم الآخرين، ولم يعودوا يرون أيّ أفق لحياتهم. لكم جميعًا الرّجاء والسّلام، لأنّ هذه السّنة هي سنة النّعمة الّتي تأتي من قلب الفادي!

في عام ٢٠٢٥ تحتفل الكنيسة الكاثوليكيّة باليوبيل، حدث يملأ القلوب بالرّجاء. يعود “اليوبيل” إلى تقليد يهوديّ قديم، عندما كان النّفخ في بوق من قرن كبش (بالعبريّة يوبيل) كلّ تسع وأربعين سنة يعلن سنة رحمة وتحرير لجميع الشّعب. كان على صدى هذا النّداء المهيب أن يتردّد بشكل مثاليّ في العالم كلّه، من أجل إعادة إحلال عدالة الله في مختلف مجالات الحياة: في استخدام الأرض، في امتلاك الخيور، في العلاقة مع القريب، ولاسيّما تجاه الأشدّ فقرًا والّذين أصابتهم مصيبة. كان صوت البوق يذكّر جميع الشّعب، الأغنياء والفقراء، بأنّه ما من إنسان يأتي إلى العالم لكي يُضطهد: نحن إخوة وأخوات، أبناء الأب عينه، ووُلدنا لكي نكون أحرارًا بحسب مشيئة الرّبّ.

واليوم، يشكّل اليوبيل حدثًا يحثّنا على البحث عن عدالة الله المحرّرة في جميع أنحاء الأرض. وبدلًا من البوق، في بداية سنة النّعمة هذه، نودّ أن نضع أنفسنا في إصغاء إلى “صرخة الاستغاثة اليائسة” الّتي ومثل صرخة دمِ هابيل البارّ ترتفع من الأرض والّتي لا يتوقّف الله أبدًا عن الإصغاء إليها. ونحن بدورنا نشعر بأنّنا مدعوّون لكي نصبح  صوت العديد من حالات استغلال الأرض وظلم القريب. إنّ أشكال الظّلم هذه تتّخذ أحيانًا مظهر ما سمّاه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني “هيكليّات خطيئة”، لأنها لا تعود إلى إثم البعض، بل أصبحت، إن جاز التّعبير، راسخة وقائمة على تواطؤ واسع النطاق.

يجب على كلّ واحد منّا أن يشعر بطريقة ما بالمسؤوليّة عن الخراب الّذي يتعرّض له بيتنا المشترك، بدءًا من تلك الأعمال الّتي، حتّى ولو بشكل غير مباشر فقط، تؤجّج الصّراعات الّتي تعصف بالبشريّة. وهكذا، تتكاثر وتتشابك التّحدّيات النّظاميّة، المتميّزة وإنّما المترابطة، الّتي يبتلي بها كوكبنا. أشير، بوجه خاصّ، إلى عدم المساواة بجميع أنواعه، والمعاملة اللّاإنسانيّة للمهاجرين، والتّدهور البيئيّ، والارتباك النّاتج عن التّضليل الإعلاميّ، ورفض أيّ نوع من الحوار، والتّمويل الواضح للصّناعة العسكريّة. جميع هذه الأمور هي عوامل تشكّل تهديدًا حقيقيًّا لحياة البشريّة جمعاء. لذلك نريد، في بداية هذا العام، أن نضع أنفسنا في الإصغاء إلى صرخة الإنسانيّة هذه لكي نشعر بأنّنا مدعوّون جميعًا، معًا وبشكل شخصيّ، لكي نكسر قيود الظّلم من أجل إعلان عدالة الله. لن تكفي لذلك بعض الأعمال الخيريّة العرضيّة. وإنّما نحن بحاجة إلى تغييرات ثقافيّة وهيكليّة لإحداث تغيير دائم.

يدعونا حدث اليوبيل لكي نقوم بعدّة تغييرات لمواجهة حالة الظّلم واللّامساواة الحاليّة، ويذكّرنا بأنّ خيور الأرض ليست فقط لبعض المميّزين وإنّما هي للجميع. قد يكون من المفيد أن نتذكّر ما كتبه القدّيس باسيليوس القيصريّ: “ولكن قُل لي ما هي الأشياء الّتي تخُصُّك؟ من أين حصلت عليها لكي تدخلها في حياتك؟ […] ألم تخرج من بطن أمّك عاريًا تمامًا؟ ألن تعود مرّة أخرى عاريًا إلى الأرض؟ من أين يأتي كلّ ما لديك الآن؟ إن قُلتَ إنّه جاءك بالصّدفة، فستكون منكرًا لله، ولن تعترف بالخالق، ولن تكون مُمتنًّا للواهب”. عندما يخفُّ الامتنان، لا يعود الإنسان يعترف بعطايا الله. ولكن الرّبّ، برحمته اللّامتناهية، لا يتخلّى عن الإنسان الّذي يخطئ في حقّه، بل يؤكّد عطيّة الحياة بمغفرة الخلاص الّتي يقدّمها للجميع بيسوع المسيح. لذلك إذ علّمنا “صلاة الأبانا”، دعانا يسوع، لكي نطلب: “أَعْفِنا مِمَّا علَينا” (متّى ٦، ١٢).

عندما يتجاهل شخص ما علاقته مع الآب، يبدأ في التّفكير بأنّ العلاقات مع الآخرين يمكن أن يحكمها منطق الاستغلال، حيث يدّعي الأقوى أنّ له الحق في أن يسود على الأضعف. وكما كانت النّخب في زمن يسوع، تستفيد من آلام الأشدّ فقرًا، كذلك اليوم في القرية العالميّة المترابطة، إذا لم يتغذَّ النّظام الدّوليّ، بمنطق التّضامن والاعتماد المتبادل، يولّد ظلمًا يتفاقم بسبب الفساد، ويوقع البلدان الفقيرة في فخّه. كذلك يصف منطق استغلال المُدين بإيجاز “أزمة الدّيون” الحاليّة الّتي تعاني منها العديد من البلدان، لاسّيما في جنوب العالم.

أنا لا أكلُّ من تكرار القول بأنّ الدّيون الخارجيّة قد أصبحت أداة للسّيطرة، لا تتورّع من خلالها بعض الحكومات والمؤسّسات الماليّة الخاصّة في البلدان الغنيّة عن الاستغلال العشوائيّ للموارد البشريّة والطّبيعيّة للبلدان الأشدَّ فقرًا من أجل تلبية احتياجات أسواقها الخاصّة. أضف إلى ذلك حقيقة أنّ العديد من السّكّان، المثقلين أصلّا بالدّيون الدّولية، يجدون أنفسهم مجبرين أيضًا على تحمّل عبء الدّيون البيئيّة للبلدان الأكثر تقدّمًا. إنّ الدَّينَ الإيكولوجيّ والدَّينَ الخارجيّ هما وجهان لعملة واحدة، لمنطق الاستغلال هذا الّذي يبلغ ذروته في أزمة الدّيون. وانطلاقًا من سنة اليوبيل هذه، أدعو المجتمع الدّوليّ إلى اتّخاذ إجراءات لإلغاء الدّين الخارجيّ، والاعتراف بوجود دين إيكولوجيّ بين الشّمال والجنوب. إنّها دعوة للتّضامن، ولكن وبشكل خاصّ للعدالة.

إنّ التّغيير الثّقافيّ والهيكليّ للتّغلّب على هذه الأزمة سيحدث عندما سنعترف أخيرًا بأنّنا جميعًا أبناء الآب، ونعترف أمامه بأنّنا جميعًا مدينون وإنّما أنّنا جميعًا ضروريّون لبعضنا البعض أيضًا بحسب منطق المسؤوليّة المشتركة والمتنوّعة. سنكون قادرين على أن نكتشف “مرّة واحدة وإلى الأبد أنّنا نحتاج وندين لبعضنا البعض”.

إذا سمحنا لهذه التّغييرات الضّروريّة أن تلمس قلوبنا، ستتمكّن عندها سنة نعمة اليوبيل من أن تفتح مجدّدًا درب الرّجاء لكلّ واحد منّا. إنّ الرّجاء يولد من خبرة رحمة الله الّتي هي غير محدودة على الدّوام.

إنَّ الله الّذي لا يدين لأحد بشيء، لا يزال يغدق النّعمة والرّحمة بلا انقطاع على جميع البشر. كتب القدّيس إسحق أسقف نينوى، أحد آباء الكنيسة الشّرقيّة من القرن السّابع: “إنَّ محبّتك هي أعظم من ديوني. وأمواج البحر ليست شيئًا مقارنةً بعدد خطاياي، ولكن إذا وزنتُ خطاياي مقارنة بمحبّتك فستتلاشى كأنّها لا شيء”. إنَّ الله لا يحسب الشّرّ الّذي يرتكبه الإنسان، ولكنّه “واسع الرذحمة، لحبّه الشّديد الّذي أحبّنا به”. وفي الوقت عينه، هو يصغي لصرخة الفقراء والأرض. يكفي أن نتوقّف للحظة، في بداية هذه السّنة، ونفكّر في النّعمة الّتي في كلِّ مرّة يغفر بها خطايانا ويعفينا من كلّ ديوننا، لكي يفيض في قلوبنا الرّجاء والسّلام.

لذلك، يضع يسوع في “صلاة الأبانا” التّأكيد المُلحّ: “فقد أعفينا نحن أيضًا من لنا عليه” بعد أن نكون قد طلبنا من الآب أن يعفِينا ممّا علينا. ولكي نعفي دينًا للآخرين ونعطيهم الرّجاء، في الواقع يجب أن تمتلئ حياتنا بالرّجاء عينه الّذي يأتي من رحمة الله. إنَّ الرّجاء يفيض في السّخاء، الخالي من الحسابات، فلا يحاسب المدينين، ولا يهتمّ بالمكاسب الشّخصيّة، بل يهدف فقط إلى غاية واحدة: أن يُنهض الّذين سقطوا، ويضمِّد القلوب المنكسرة، ويحرّر الأشخاص من جميع أشكال العبوديّة.

ولذلك، وفي بداية سنة النّعمة هذه، أودّ أن أقترح ثلاثة أعمال يمكنها أن تعيد الكرامة إلى حياة شعوب بأكملها وتضعها في مسيرة على درب الرّجاء، لكي يتمَّ تخطّي أزمة الدّيون ويتمكّن الجميع من الاعتراف مرّة أخرى بأنّهم مدينون قد أُعفوا ممّا عليهم.

أوّلًا، أستعيد النّّداء الّذي وجّهه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني بمناسبة يوبيل عام ٢٠٠٠، للتّفكير في “تخفيض كبير، إن لم يكن في إعفاء كامل، للدّيون الدّوليّة الّتي تثقل كاهل مصير العديد من الأمم”. وفي ضوء الاعتراف بالدّين الإيكولوجيّ، ينبغي على الدّول الأكثر ازدهارًا أن تشعر بأنّها مدعوّة لبذل كلّ جهد ممكن لإعفاء ديون الدّول الّتي لا تملك القدرة على تسديد ما عليها. وبالتّأكيد، لكي لا يكون ذلك مجرّد عمل خيريّ منعزل قد يؤدّي إلى إعادة تدوير حلقة مفرغة من التّمويل والدّيون، فمن الضروريّ في الوقت عينه تطوير هيكليّة ماليّة جديدة تفضي إلى إنشاء ميثاق ماليّ عالميّ يقوم على التّضامن والتّناغم بين الشّعوب.

كذلك، أدعو إلى التزام راسخ بتعزيز احترام كرامة الحياة البشريّة، منذ الحبل بها وحتّى موتها الطّبيعيّ، لكي يتمكّن كلّ شخص من أن يحبّ حياته ويتطلّع إلى المستقبل برجاء ورغبة في التّنمية والسّعادة له ولأبنائه. بدون رجاء في الحياة في الواقع، من الصّعب أن تنبعث في قلوب الشّباب الرّغبة في توليد حياة أخرى. وهنا، بشكل خاصّ، أودّ أن أدعو مرّة أخرى إلى لفتة ملموسة يمكنها أن تعزّز ثقافة الحياة. وأعني إلغاء عقوبة الإعدام في جميع الدّول. إنّ هذا التّدبير، في الواقع، بالإضافة إلى المساس بحرمة الحياة، يقضي على كلّ رجاء بشريّ بالمغفرة والتّجديد.

أجرؤ أيضًا على توجيه نداء آخر، مذكّرًا بالقدّيس بولس السّادس وبندكتس السّادس عشر، للأجيال الشّابّة في هذا الزّمن المطبوع بالحروب: لنستخدم على الأقلّ نسبة ثابتة من الأموال الّتي تُنفق على التّسلّح من أجل إنشاء صندوق عالميّ يقضي بشكل نهائيّ على الجوع ويسهّل النّشاطات التّربويّة في البلدان الأكثر فقرًا لتعزيز التّنمية المستدامة ومكافحة التّغيّر المناخيّ. علينا أن نحاول أن نقضي على أيّ ذريعة قد تدفع الشّباب إلى تخيّل مستقبلهم بدون رجاء، أو كانتظار للثّأر لدماء أحبّائهم. إنّ المستقبل هو عطيّة لكي نتخطّى أخطاء الماضي ونبني مسارات جديدة للسّلام.

إنَّ الّذين سيسلكون، من خلال اللّفتات المقترحة، مسيرة الرّجاء، سيتمكّنون من رؤية هدف السّلام المنشود أقرب. ويؤكّد لنا صاحب المزامير هذا الوعد: “الرّحمة والحقّ تلاقيا البرّ والسّلام تعانقا”. عندما أجرِّد نفسي من سلاح الائتمان وأعيدُ درب الرّجاء إلى أخت أو أخ، أُساهمُ في إعادة إحلال عدالة الله على هذه الأرض وأسير مع ذلك الشّخص نحو هدف السّلام. وكما قال القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون، إنّ السّلام الحقيقيّ يمكنه أن يولد فقط من قلب متجرّد من القلق والخوف من الحرب.

لتكن سنة ٢٠٢٥ سنةً ينمو فيها السّلام! ذلك السّلام الحقيقيّ والدّائم، الّذي لا يتوقّف عند مراوغات العقود أو طاولات التّسويات البشريّة. لنبحث عن السّلام الحقيقيّ الّذي يعطيه الله لقلب مجرّد من السّلاح: قلب لا يصرّ على أن يحسب ما هو لي وما هو لك؛ قلب يذيب الأنانيّة في الجهوزيّة للذّهاب للقاء الآخرين؛ قلب لا يتردّد في الاعتراف بكونه مدينًا أمام الله، ولهذا فهو مستعدّ لأن يعفي الدّيون الّتي تثقل كاهل القريب؛ قلب يتخطّى الإحباط بسبب المستقبل بالرّجاء في أنّ كلّ شخص هو مورد ثمين لهذا العالم.

إنَّ تجريد القلب من السّلاح هو بادرة تشمل الجميع، من الأوّلين إلى الأخيرين، من الصّغار إلى الكبار، من الأغنياء إلى الفقراء. أحيانًا، يكفي شيء بسيط مثل “ابتسامة، أو لفتة صداقة، أو نظرة أخويّة، أو إصغاء صادق، أو خدمة مجّانيّة”. بهذه التّصرّفات الصّغيرة- الكبيرة، سنقترب من هدف السّلام ونصل إليه بسرعة أكبر، بقدر ما سنكتشف، خلال السّير جنبًا إلى جنب مع الإخوة والأخوات الّذين قد وجدناهم، بأنّنا تغيّرنا نسبة لما كنّا عليه عندما انطلقنا. إنَّ السّلام في الواقع لا يأتي فقط بانتهاء الحرب، وإنّما ببداية عالم جديد، عالم نكتشف فيه أنفسنا مختلفين، وأكثر اتّحادًا وأخوة ممّا كنا نتخيّل.

إمنحنا سلامك يا ربّ! هذه هي الصّلاة الّتي أرفعها إلى الله، بينما أتوجّه بالتّهاني بالعام الجديد إلى رؤساء الدّول والحكومات، وإلى مسؤولي المنظّمات الدّوليّة، وقادة الدّيانات المختلفة، وكلّ شخص ذي نيّة صالحة. أَعْفِنا يا ربّ مِمَّا علَينا، فقد أعفينا نحن أيضًا من لنا عليه، وفي هذه الحلقة من الغفران امنحنا سلامك، ذلك السّلام الّذي أنت وحدك قادر أن تمنحه، لمن يسمح بأن يُجرَّد قلبه من السّلاح، لمن يريد برجاء أن يعفي ديون إخوته، لمن لا يخشى من الاعتراف بأنّه مَدينٌ لك، لمن لا يغلق أذنيه عن صرخة الأشخاص الأشدَّ فقرًا.”