في أحد تقديس البيعة، ترأّس البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، مفتتحًا السّنة الطّقسيّة الجديدة، ومصلّيًا من أجل السّلام في لبنان.
وللمناسبة ألقى عظة بعنوان: “أنت هو المسيح إبن الله الحيّ” (متّى 16: 16)، جاء فيها:
“1. على سؤال يسوع لتلاميذه مباشرةً: “وأنتم من تقولون أنّي هو” (الآية 15)، كان جواب سمعان بطرس من دون تردّد: “أنت المسيح إبن الله الحيّ”(الآية 16). فامتدحه يسوع على جوابه بالصّواب، لأنّه جواب الإيمان. فالإيمان عطيّة من الله، نعمة منه، إلهام من الرّوح القدس الّذي ينير عقل الإنسان، ويحرّك قلبه نحو الله، فيرى الحقيقة ويقبلها في عقله مقتنعًا بها، وفي قلبه محبًّا لها، ويُخضع إرادته لها عاملًا بموجبها. هذا هو الإيمان، إيمان سمعان بطرس.
2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، وأن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة الّتي نبدأ بها السّنة الطّقسيّة الجديدة، مع تحيّة خاصّة للسّيّدة باترسيا زوجة الدّكتور إيلي صفير، فيما نقدّم هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفوس والديها وهبة وأنطوانيت وهبة، وشقيقها فيليكس، وإبن شقيقها ريان.
3. السّنة الطّقسيّة التي تبدأ في هذا الأحد وتنتهي في آخر أحد من شهر تشرين الأوّل، نحتفل مع الكنيسة وفيها، بكلّ الأحداث الخلاصيّة المرتبطة بحياة يسوع، وبخاصّة بتجسّده وظهوره، وصومه، وموته، وقيامته، وإعطائه الروّح القدس، وانتظار مجيئه الثّاني بالمجد.
تتميّز السّنة الطّقسيّة بطابعها التّربويّ، إذ تختصر في سنة واحدة، الأحداث الخلاصيّة في حياة يسوع وتعليمه، جامعةً بين الكتاب المقدّس واللّيتورجيا، فتعكس كنيستنا المارونيّة ارتباطها بالكتاب المقدّس الّذي يشكّل روحانيّتها الرّاسخة وقلبها النّابض، إذ لا تقرأه فقط، بل تتأمّل مضامينه، وتشرحه، وتنشده وتصلّيه.
4. “أنت المسيح إبن الله الحيّ”(متى 16: 16). هذه هي الحقيقة الّتي ولّدها الإيمان عند سمعان بطرس. وهي أنّ يسوع هو المسيح المنتظر الّذي تكلّم عنه الأنبياء؛ وهو إبن الله الّذي صار إنسانًا ليكلّمنا عن الله، ويكشف لنا وجهه؛ وهو المسيح المرسل من الآب ليفدي البشر؛ وهو إبن الله الحيّ أي أنّه إله إبن إله، وإنّه حيّ لا كآلهة الأصنام ولا كالقياصرة الّذين عبروا وماتوا، وأنّه قريب منّا متعامل معنا بمحبّته وكلمته ومشاعره الإنسانيّة.
5. إمتدح يسوع إيمان سمعان: “طوبى لك يا سمعان بن يونا”(الآية 17)، لأنّ إيمانه العطيّة من الله جعله “صخرة يبني عليها كنيسته” (الآية 18). إنّه صخرة حيّة، لأنّ إيمانه حيّ معاش، فاعل، ومتفاعل مع سرّ الله وتصميمه الخلاصيّ. والكنيسة المبنيّة على صخرة الإيمان بالمسيح، حجارتها إيمانيّة حيّة تكلّم عنها بطرس في رسالته الأولى: “كونوا أنتم مبنيّين، كحجارة حيّة، بيتًا روحيًّا، لتصيروا جماعة كهنوتيّة مقدّسة”(1 بطرس 2: 25).
“الكنيسة مثل بيت، وهي في آن بيت الله بين البشر، وجماعة المؤمنين بالمسيح. فلا تقوى عليها قوى الخطيئة والشّرّ”الآية 18). ليست هذه الكنيسة مؤسّسة بشريّة أو منظّمة اجتماعيّة، بل مثل جسم حيّ يعمل فيه الجميع ويتفاعلون بمقدار ما هم متّحدون بالمسيح. هذا الجسم هو جسد المسيح السّرّيّ. ما يعني أنّ الكنيسة هي سرّ التّجسّد الدّائم، المعروف بالمسيح الكلّيّ أو المسيح السّرّيّ، بالنّسبة إلى المسيح التّاريخيّ.
6. “ولك أعطي مفاتيح ملكوت السّماوات” (الآية 19). بهذه الكلمات أقام يسوع سمعان-بطرس رأسًا للكنيسة من أجل الوحدة في الإيمان والشّركة. ما يعني أنّ السّلطة في الكنيسة ليست سلطة بشريّة، بل سلطة إلهيّة، وتتمثّل في رأس الكنيسة خليفة بطرس أسقف روما، المعروف بقداسة البابا أو الحبر الرّومانيّ. ويمارس سلطته إمّا شخصيًّا، وإمّا مع المجامع المسكونيّة.
أمّا السّلطة في الدّولة فهي بشريّة، حيث “الشّعب هو مصدر السّلطات، وصاحب السّيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدّستوريّة” (مقدّمة الدّستور (د)).
انطلاقًا من هذا التّأكيد في الدّستور نتساءل:
أين رأي الشّعب في التّمادي بعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة منذ سنتين كاملتين.
أين رأي الشّعب بعدم انتظام المؤسّسات الدّستوريّة وفي طليعتها مجلس النّوّاب الّذي أصبح هيئة انتخابيّة لا تشريعيّة، ومجلس الوزراء المحدود الصّلاحيّات والّذي يقاطعه عدد من الوزراء.
أين رأي الشّعب في الحرب المدّمرة بين حزب الله وإسرائيل، إنّه حتمًا ضدّها لأنّه هو ثمنها: ضحايا مدنيّة رجالًا ونساءً وأطفالًا، وكأنّنا أمام حرب إبادة، تُستعمل فيها أحدث الأسلحة والصّواريخ، من دون شفقة ورحمة. الشعب ضدّ هذه الحرب الّتي دمّرت المنازل والمؤسّسات ودور العبادة، والّتي هجّرت ما يزيد على المليون ونصف مهجّر. وتبدّد اقتصاده وماله وعمله ووظيفته. وفوق ذلك لا وقفًا لإطلاق النّار، بل المزيد من الضّحايا والتّدمير والنّزوح والجرحى بعشرات الألوف. فإلى متى؟ بالحرب الجميع خاسر ومنهزم ومكسور!
7. والنّزوح سيكون، إذا أهمل، سببًا للمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة بين المواطنين. فيجب المزيد من الوعي، والمحافظة على الأملاك الخاصّة، وعلى العيش المشترك. وإنّنا نحيّي المبادرات الإنسانيّة الدّاخليّة، ونوجّه النّداء إلى الدّول الصّديقة، شاكرينها على كرمها في إرسال المساعدات المتنوّعة، وطالبين منها مواصلة إرسال المساعدات بروح التّضامن، والحسّ الاجتماعيّ، من أجل إبعاد شبح الخلافات والتّصادم بين النّازحين والمقيمين في مختلف المناطق.
ويجب تحرير المدارس الخاصّة والرّسميّة لكي تتأمّن التّربية والتّعليم لأطفالنا وأجيالنا الطّالعة. وهذا الأمر هو في عهدة وزارة التّربية والحكومة. إنّ التّربية والتّعليم هما عنصران أساسيّان في حياة أطفالنا وشبابنا، وهما ضروريّان كالطّعام.
ونوجّه النّداء إلى مجلس الأمن والأسرتين العربيّة والدّوليّة، التّدخّل الدّيبلوماسيّ لإيقاف النّار بين حزب الله وإسرائيل، وإيجاد الحلول اللّازمة رحمةً بلبنان وشعبه.
8. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، إلى الله إله السّلام كي يتدخّل بطريقته، فهو وحده سيّد التّاريخ، ويمنحنا السّلام العادل والشّامل والدّائم. له المجد والشّكر، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.”