وجّه بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو رسالة راعويّة لمناسبة السّنة المقدّسة 2025، إذ أنّ “اليوبيل فرصة روحيّة “لبدايات جديدة” للكنيسة والبشريّة جمعاء”.
وفي هذا السّياق، كتب ساكو وفقًا لموقع البطريركيّة الرّسميّ، ما يلي:
“شعار الرّجاء
“فإنّك أنتَ أيُّها السّيّد رجائي، وأنتَ أيُّها الرّبّ مُعتمدي منذ صباي” (مزمور 71/5). هذه الآية من سفر المزامير، تعبّر بقوّة عن الشّعار الّذي اختاره البابا فرنسيس، ليوبيل السّنة المقدّسة عام 2025 “حُجَّاج الرّجاء” والّذي سيبدأ بعد بضعة أسابيع.
الرّجاء يمثّل تفسيرًا عميقًا لليوبيل. الرّجاء لا يأتي من الخارج، بل من الرّبّ، ويحمل لنا العزاء. الرّجاء يدفع كلَّ شيء إلى الأمام، لذلك علينا ان نُبقِيَ شعلته مضاءة في داخلنا، ونحمل نوره في ظلام عالمٍ منقسمٍ وجريح.
لا ينبغي أن نخلط بين الأمل الّذي هو شعور عاطفيّ متفائل بنتائج إيجابيّة أمام صعوبات الحياة، وبين الرّجاء الّذي هو فضيلة لاهوتيّة كبرى، وموقفٌ إيمانيّ للعيش بثقة وثبات.
السّؤال الأساسيّ المطروح علينا في سنة اليوبيل هو: كيف نُوطّد الرّجاء عند النّاس؟ وكيف ننقله إلى عالم يبدو أنّه انسحب منه؟
المصالحة هي في قلب اليوبيل
اليوبيل تقليدٌ عريق، وذو قيمة روحيّة عالية. عاشته الكنيسة الكاثوليكيّة عبر تاريخها الطّويل، ليغدو زمنًا مقدّسًا للمؤمنين. اليوبيل زمن إيمانيّ وروحيّ، تعود جذوره إلى الكتاب المقدّس، يهدف إلى تنقية الذّات وإعادة العلاقة مع الله ومع الآخرين الّذين نعيش معهم ومع الخليقة. هذا ما دعت إليه رسالة البابا كلّنا إخوة – Fratelli tutti، وأن نكون مسؤولين عن بيتنا المشترك كُنْ مُسَبَّحًا– Laudatosi وكلمة “يوبيل- Jubileo تشير إلى الاحتفال بفرح المصالحة والمغفرة الّتي ننالها من الله ومن الآخرين.
هذا التّغيير لا يمكن أن يتحقّق من دون ترسيخ ثقتنا بالله وطاعتنا له، من خلال الصّلاة والإصغاء إلى الرّوح القدس الّذي يرشدنا في وقت الخطيئة والأزمات والتّعب كما شدّد سينودس السّينوداليّة في أكتوبر 2024.
ونحن الرّعاة مدعوّون بالدّرجة الأولى إلى مراجعة ذاتنا وأمانتنا للرّسالة الموكولة إلينا كشهود نصغي إلى الرّوح القدس، لنوجّه شعبنا إلى ما يريده الله. نحن رعاة لحمل فرح الإنجيل ومحبّة الله ورحمته وغفرانه، ولسنا لإدارة شؤون الكنيسة كرجال أعمال!
كما أدعو المؤمنين إلى قراءة معمّقة للرّسالة العامّة لقد أحبّنا –Dilexit nos للبابا فرنسيس الّتي لها قيمة روحيّة لهذا اليوبيل. إنّها تساعد على التّأمّل في موضوع اليوبيل والتّحلّي بالرّجاء الّذي يقودنا في “حَجٍّ روحيٍّ داخليّ، وتقاسم المحبّة (محبّة الله لنا) مع الآخرين. هذه المحبّة الّتي تحرّرنا من تضخيم الذّات، والأنانيّة والفساد وروح الانتقام.
المصالحة الشّجاعة هي الخطوة الأولى لليوبيل
اليوبيل فرصة لنبدأ مرحلة جديدة يسمّيها الانجيل التّوبة، لكي نتخلّص من الماضي المؤلم ونبدأ بالأفضل لنعيش بسلام وفرح وبهجة.
أوّل خطوة نبدأ بها لنوقظ حقيقتنا هي المصالحة والتّغيير عبر فحص الضّمير: الأحداث والحقيقة الذّاتيّة، والعلاقات في مجتمع مشوّش.
إنّ التّغيير الكبير يشمل طريقة عيش الإيمان وعيش العلاقات على جميع المستويات في المجتمع والكنيسة، مع إيلاء اهتمام خاصّ لتغيير السّلوك.
المصالحة تكمن في معالجة الخصومة والزّعل وروح الانتقام من خلال الاعتراف الصّريح بالخطأ، وبالنّدم الدّاخليّ العميق على ما ارتكبناه من خطأ، والشّجاعة في طلب الغفران، والسّعي لتغيير السّلوك لنعيش بسلام ووئام. ومثلما يفتح الله باب الرّحمة والنّعمة والمغفرة لمن يتوبون حقًّا، علينا نحن أيضًا أن نغفر لمن اساء إلينا، ونطلب المعذرة لمن أسأنا إليهم. أليس إلى هذه التّوبة يشير فتح باب الكنائس الكبرى رسميًّا في بداية اليوبيل؟
الإعتراف بالخطأ وطلب المغفرة هي خطوات لا غنى عنها لشفاء الذّكريات الجريحة. هذا ما علَّمهُ يسوع المسيح في صلاة الأبناء: “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا لمن أخطأ إلينا” (متّى 6: 12). “إن لم تغفروا للنّاس زلّاتهم، فلن يغفر لكم أبوكم زلّاتكم” (متّى 6: 15).
بفضل هذه الرّحمة الّتي ننالها من الله ونقبلها، نستطيع أن نغفر للآخرين إساءتهم إلينا، وأن نحوّل “المغفرة والمصالحة” إلى الفرح.
اليوبيل مناسبة فريدة لمدّ اليد نحو الآخر، باتّجاه المراجعة الثّنائيّة، والمكاشفة الأخويّة تحت إلهام الرّوح القدس. ذلك أنّ شجاعة المصالحة المتبادلة، وما يترشّح عنها من فرح، لا تقارن بما تتمخّص عنه المخاصمات والاصطفافات غير المسيحيّة.
للكنيسة رسالة تربويّة وتعليميّة أكّد عليها سينودس السّينوداليّة. الكنيسة السّينوداليّة- المجمعيّة، كنيسة حيّة ولها رسالة. وهنا أفكّر في أهمّيّة التّنشئة المسيحيّة بحسب التّوجّهات الّتي اقترحتها وثائق التّعليم المسيحيّ منذ عقود، والّتي بحسب اعتقادي لم نستفد منها نحن الشّرقيّين! ذلك أنّ التّنشئة الصّحيحة تغدو تحوّلًا – تكوينًا formation-transformation. وهنا أذكر مسألة مراجعة دور اللّغة والمصطلحات والأسلوب في نقل الإيمان، والتّواصل مع حاجات المؤمنين وتطلّعاتهم، وضرورة تدريب الوعّاظ ومعلّمي “التّعليم المسيحيّ” المستدام على المستجدّات.
اليوبيل ومآسي البشر فرصة لإنسانيّة أكثر صدقًا
كيف يُمكننا أن نغذّي الأمل بالسّلام في وجه أهالي من فقدوا حياتهم في الصّراعات والحروب والإرهاب، أو الأشخاص الّذين فقدوا بيوتهم وأملاكهم وأشغالهم ويعيشون في المخيّمات يهيمن عليهم الخوف والفقر والحاجة إلى كلّ شيء؟
المستقبل لعالم أفضل يحتاج إلى التّخلّي عن صناعة ألأسلحة المتطوّرة والفتّاكة، والتّركيز على إزالة أسباب الصّراعات المدمّرة ومآسي الظّلم والجشع والفساد واللّامبالاة وخلق توازنات وانسجام مستقرّ وأمان بين الشّعوب والدّول.
كمؤمنين مسيحيّين ومسلمين ويهود علينا أن ندرك أنّ الله هو للجميع ويريد الخير للجميع. وما يحصل في عالمنا من ظلم يتعارض تمامًا مع إرادة الله، الّذي خلق الإنسان ويحبّه وأوجد الكون الّذي رآه جميلًا (تكوين1/12) ويديمه.
على الكنيسة والمرجعيّات الدّينيّة الأخرى) التزامٌ كبير في رفع صوتها النّبويّ عاليًا لدعم ملموس للحلول الفعّالة، في تغيير طريقة عيش العلاقات الأخويّة، في السّلام والاستقرار والمساواة، بحرّيّة وكرامة واحترام.
هذا التّعامل مع القضايا الرّاهنة يُؤسَسُ على إعلان المسيح برنامجه اليوبيليّ في مجمع النّاصرة، معتمدًا على نصّ النّبيّ أشعيا (61/1-2)”رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء، وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم، ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم، وأُفَرِّجَ عنِ المَظلومين، وأُعلِنَ سَنَةَ رِضًا عِندَ الرَّبّ” (لوقا4/18-19).
أجل إنّ الكنيسة بحاجة إلى استراتيجيّة جديدة لربط هذه القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة بالإيمان. وبإمكان الكنيسة الاستفادة من جميع ذوي الإرادة الطّيّبة، وهم كثر من الرّاغبين بفعل شيء ما من أجل السّلام والاستقرار. قال البابا فرنسيس: “أتمنّى أن يكون اليوبيل فرصة لوقف إطلاق النّار في كلّ النّزاعات الدّائرة” (في تقديمه لكتاب بعنوان “يوبيل الرّجاء 4 كانون الأوّل 2024) هذا هو الرّجاء.
النّشاطات
على الصّعيد الجماعيّ:
من المؤكّد أنّ البطريركيّة والأبرشيّات في الدّاخل والخارج سوف تنظّم نشاطات متعدّدة منها:
1. تنظيم خدمة روحيّة وليتورجيّة خاصّة باليوبيل: صلوات مشتركة وقداديس خاصّة، وحلقات تأمّل في كلمة الله ورتب توبة جماعيّة.
2. التّطوّع بسخاء في خدمة المحبّة: خدمة الفقراء، والأشخاص المرضى وذوي الإعاقة. يقول البابا فرنسيس كلّ عمل من أعمال الرّحمة هو علامة الرّجاء (عظة قدّاس الأحد 17/11/2024 بمناسبة يوم الفقير).
3. من المفضّل أن تنظّم كلّ أبرشيّة بنفسها مجموعة “كروب” أو أكثر للحجّ إلى الأماكن المقدّسة، مع حصر العدد بين 30-40 لتستمرّ على مدار السّنة. هذا التّنظيم يضمن استمراريّة حضور كنيستنا في هذه التّجمّعات الكنسيّة ذات القيمة الرّوحيّة العالية.
زيارة أربع كنائس في الأبرشيّة، والمزارات العالميّة بروما، أسيزي وكاشيا ولورد في فرنسا وعذراء الفاتيما في البرتغال أو بازيليك القدّيسة فاتيما الكلدانيّة في القاهرة حيث يرتفع تمثال العذراء فاتيما. كما أشدّد على الحجّ إلى جذورنا في العراق والأديرة والكنائس القديمة: دير الرّبّان هرمز، مار اوراها، كنيسة الطّهرة بالموصل ومار اشعيا ومسكنته، وكنيسة كوخي وأمّ الأحزان ببغداد وكنيسة إبراهيم الخليل الجديدة في أور النّاصريّة.
هذا وقد شكّلنا في بغداد لجنة لتنظيم الحجّ في داخل العراق وخارجه.
العبرة الإيمانيّة من اليوبيل ومن عيد الميلاد الّذي هو على الأبواب: أن نتعلّم من خبرة مريم ويوسف و الرّعاة والمجوس: تعميق إيماننا وثقتنا وسط المتغيّرات العديدة والتّحدّيات الصّعبة، والإصغاء إلى كلمة الله من خلال الأحداث- العلامات، والتّأمّل العميق. عندما ندع صوته يكلّم قلوبنا، إذّاك سنجد بوضوح كلّ ما يريد الله أن يقوله لنا لنجسّده بفرح وننقله برجاء إلى الآخرين.
لنضع هذه المسيرة في ظلّ حماية أمّنا مريم لكي ترافقنا في سنة اليوبيل وكلّ مسيرتنا الإيمانيّة كما رافقت ابنها يسوع.”