23 ديسمبر 2024
لبنان

عوده: اللّبنانيّون لن يُخذلوا 

أكّد متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده على أنّه “عندما يدافع الإنسان عن قضيّة محقّة وعادلة يكون النّصر حليفه مهما تأخّر”. 

كلام عوده جاء خلال عظة قدّاس الأحد في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- وسط بيروت، والّتي بدأها من وحي الإنجيل، فقال: “أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم أنّ الرّبّ يسوع أقام ابنة رئيس المجمع يايرس الّتي كانت في الثّانية عشرة من عمرها وقد مرضت وماتت. هذه المعجزة تتلاقى مع معجزة أخرى صنعها الرّبّ في طريقه نحو بيت يايرس إذ شفى نازفة الدّمّ الّتي أصيبت بدائها منذ اثنتي عشرة سنةً أيضًا وقد “أنفقت معيشتها على الأطبّاء ولم يستطع أحدٌ أن يشفيها”. هذه المرأة أيقنت بالإيمان أنّ يسوع هو شافيها واكتفت بلمس هدب ثوبه، عالمةً أنّها ستبرأ. لقد انتزعت شفاءها انتزاعًا ولم تيأس مع علمها بأنّها خاطئةٌ ودنسةٌ فاستحقّت قول السّيّد: “ثقي يا ابنة، إيمانك أبرأك”. 

إنّ إسم رئيس المجمع “يايرس” يعني المستنير وهو إشارةٌ إلى النّاموس، أمّا العدد إثني عشر فيشير إلى أسباط إسرائيل الإثني عشر. فبدل أن يستنير الشّعب اليهوديّ بنور النّاموس ويحيا بنعمة روح اللّه وكلمته، اختار تطبيق هذا النّاموس حرفيًّا فأصبح بحاجة إلى لمسة قياميّة لا يمتلكها إلّا المسيح يسوع الّذي خرّ يايرس عند قدميه وطلب إليه أن يدخل بيته كي يشفي ابنته قبل أن تموت، لكنّها ماتت وهو في طريقه نحوها فأقامها يسوع من سبات الموت. 

لقد آمن رئيس المجمع اليهوديّ بالمسيح لكنّ إيمانه كان أضعف من إيمان قائد المئة الوثنيّ، لأنّ رئيس المجمع طلب من السّيّد أن يأتي إلى بيته ليشفي ابنته الّتي أوشكت أن تموت، أمّا قائد المئة ذاك فقد آمن بأنّ المسيح قادرٌ أن يشفي غلامه بكلمة منه، دون الحاجة إلى حضوره في البيت فقال له يسوع: “كما آمنت ليكن لك، فبرأ غلامه في تلك السّاعة” (مت 5). 

كان الرّبّ يجترح معجزاته مع البشر ناظرًا إلى تنوّعهم الثّقافيّ والإيمانيّ، ويستجيب لكلّ واحد منهم حسب استيعابه وحسب الدّرس الّذي يريد تلقينه. حتّى إنّه كان يصطحب تلاميذه ليس للظّهور بمظهر العظمة، إنّما كي يشهدوا على ما يصنعه ويتعلّموا حتّى يقوموا بالمثل متى جاء دورهم.  

لقد أعطى المسيح رئيس المجمع اليهوديّ الّذي كان إيمانه ضعيفًا، درسًا في الإيمان، عبر شفائه النّازفة الدّم علانيةً، وهي امرأةٌ مجهولةٌ، لمست هدب ثوبه فقط فشفيت بسبب عظمة إيمانها.  

يشير شفاء النّازفة الدّم وبعدها إقامة ابنة يايرس إلى التقاء الأمم واليهود بالمسيح كطبيب للنّفوس والأجساد وواهب للحياة. إقامة ابنة يايرس بعد شفاء النّازفة الدّم إشارةٌ إلى أنّ المسيح لم يرسل فقط إلى الشّعب اليهوديّ الّذي يعتبر نفسه شعب اللّه المختار، بل جاء لخلاص جميع الأمم، حتّى الوثنيّين منهم، إذا آمنوا به وحفظوا وصاياه، على عكس اليهود الّذين رفضوا المسيح والحياة معه، وتمسّكوا بحرفيّة النّاموس.  

إنّ الخبر الّذي حمله المرسل الآتي من بيت رئيس المجمع وطلبه ألّا يأتي الرّبّ لأنّ الفتاة قد ماتت، يظهران أنّ قومه رأوا في السّيّد مجرّد معلّم، وليس إلهًا وربّ الحياة. إلّا أنّ المسيح حسم الأمر قائلاً: “لا تخف، آمن فقط فتبرأ هي” مشجّعًا الأب الحزين ومبدّدًا خوفه، مؤكّدًا له أنّ مجيئه لم يكن عبثًا، ومشدّدًا إيمانه كي يتحقّق رجاؤه. 

أبعد الرّبّ كلّ الّذين كانوا يبكون ويلطمون. مع أنّهم يهودٌ ويفترض أنّهم مؤمنون باللّه، إلّا أنّهم أظهروا العادات الوثنيّة الّتي تمارس في الجنازات، والّتي لا تعبّر سوى عن الإعتراض على مشيئة اللّه. هؤلاء لم يفهموا ما كلّمهم به الرّبّ فضحكوا. ضحكهم كان تأكيدًا على موت الفتاة، وتاليًا على أنّ المعجزة الّتي ستحدث هي حقيقيّةٌ. نحن كثيرًا ما نظنّ أنّ الرّبّ يقول أمورًا غير منطقيّة، إلّا أنّنا ننسى أنّ منطقنا محدودٌ، ولا يمكننا أن نفقه الكثير من خططه الخلاصيّة. لذلك، نحن مدعوّون أن نثق بالرّبّ إلى ما لا نهاية، وأن نلتجئ إليه حتّى نقوم من موت خطايانا، ونحيا معه إلى الأبد.  

يا أحبّة، ما أحوجنا في لبنان إلى الإيمان الحقيقيّ باللّه، وإلى الثّقة التّامّة والرّجاء بما سيقدّمه لنا. “لا تخف، آمن فقط”. هذا ما يطلبه منّا الرّبّ الّذي لا يرذل القلب المتخشّع والمتواضع، كما فعل مع النّازفة الدّم. 

إنجيل اليوم يشكّل علامة رجاء للمؤمن. عندما ماتت إبنة رئيس المجمع راح الجميع “يبكون ويلطمون” أمّا يسوع فطمأنهم قائلاً: “لا تبكوا، إنّها لم تمت ولكنّها نائمة”، ثمّ أمسك بيدها قائلاً “يا صبيّة قومي”. هذا يعني أنّ ما ليس مستطاعًا عند النّاس مستطاعٌ عند اللّه. ولبنان المتروك لمصيره سيقوم من كبوته لا محالة بفضل من تبقّى من أبنائه الواضعين رجاءهم في الرّبّ، غير يائسين من خلاصهم وخلاص بلدهم. قد يسخر منطق العالم من يقين الإيمان لكنّنا نحن، معشر المؤمنين، على يقين من أنّ الموت ينتفي حيث يكون المسيح معطي الحياة.  

يا أحبّة، في نهاية القدّاس سوف نرفع الصّلاة مع إخوتنا اليونانيّين من أجل بلدهم، في الذّكرى السّنويّة ل «لا» Όχι الّتي بها رفضت اليونان الإحتلال الإيطاليّ إبّان الحرب العالميّة الثّانية، وقاومت ببسالة حتّى حرّرت نفسها، ما دفع تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا إلى القول “العالم بعد الآن لن يقول إنّ اليونانيّين يقاتلون كالأبطال إنّما الأبطال يقاتلون مثل اليونانيّين”. عندما يدافع الإنسان عن قضيّة محقّة وعادلة يكون النّصر حليفه مهما تأخّر، ومهما نكّل بالإعلام الّذي ينقل الحقيقة أو خوّن واتّهم، ستظهر الحقيقة ويظهر الظّالمون. اللّبنانيّون المتمسّكون باستقلال بلدهم وسيادته واستقراره لن يخذلوا. المهمّ أن يؤمنوا بقضيّتهم وأن يتكّلوا على الرّبّ القادر على كلّ شيء. آمين.”