“أنتم تعرفون قلوبكم: احرسوها!”، هذا ما أوصى به البابا فرنسيس الشّباب المشاركين في النّسخة الثّالثة من “يوم العمل” الّذي تنظّمه الجمعيّات المسيحيّة للعمّال الإيطاليّين، في رسالة استهلّها بشكر المنظّمين.
ثمّ تابع البابا رسالته متوجّهًا إلى الشّباب قائلًا بحسب “فاتيكان نيوز”: “أيّها الأصدقاء الشّباب الأعزّاء! يسرّني أن يُعقد يوم العمل هذا، هذا العام أيضًا، من أجل تعزيز العمل الكريم وإعادته إلى محور الاهتمام. أشكر المنظّمين، وبشكل خاصّ الدّكتورة ليديا بورزي، رئيسة الجمعيّات المسيحيّة للعمّال الإيطاليّين “A.C.L.I.” في روما.
قد يبدو لكم العمل حتّى اليوم مشكلة تخصّ الكبار. ولكن، كأسقف روما المسنّ، أودّ أن أقول لكم: ليس الأمر كذلك! أنتم قد عملتم كثيرًا، هل تعلمون ذلك؟ كم من الجهد والطّاقة كانوا ضروريّين لنموّكم؟ بالتّأكيد، لقد نلتم الكثير، ولكن جهود الأهل والمعلّمين والمربّين والأصدقاء كانت ستكون بدون جدوى، بدون استجابتكم. صحيح أنّ كلّ واحد منّا قد أهدر فرصًا جيّدة في بعض الأحيان، إلّا أنَّ الحياة لا تكفّ عن دعوتنا لكي نخرج من ذواتنا. نحن لدينا “جحورنا”، ونبني لأنفسنا ملاجئ، ولاسيّما عندما تحيط بنا الفوضى والتّهديدات. لكنّنا في الحقيقة قد خُلقنا للنّور، وللأماكن المفتوحة. وهكذا، بعد أن تكونوا قد عبرتم مرحلة المراهقة، ينفتح العالم أمامكم. قد يبدو مزدحمًا ومشتّتًا لدى وصولكم، ومع ذلك، هو يحتاج إلى مساهمتكم، إلى ما قد دُعيتم إليه منذ الأزل. معكم- وأودّ أن أخاطب كلّ واحد منكم: معك- يدخل الجديد إلى العالم. كلّ شيء، كلّ شيء بالفعل يمكنه أن يتغيّر.
بالإصغاء إلى صرخة الأرض، والهواء، والماء، الّذين جُرحوا بسبب نموذج خاطئ للتّنمية، أدركتُ بشكل أفضل حقيقة أودّ أن أشاركها اليوم معكم: في الخليقة “جميع الأمور مرتبطة ببعضها البعض”. لهذا السّبب، يمكن لمساهمة كلّ واحد منكم أن تحسّن العالم. وحداثة كلّ فرد تتعلّق بالجميع. عالم العمل هو عالم إنسانيّ، يكون كلّ فرد مرتبط بالجميع. وللأسف، حتّى هذا “العالم” ملوّث بديناميكيّات وسلوكيّات سلبيّة تجعله في بعض الأحيان غير قابل للعيش. إلى جانب العناية بالخليقة، هناك حاجة إلى العناية بنوعيّة الحياة البشريّة، والبحث عن الأخوّة البشريّة والصّداقة الاجتماعيّة، لأنّ روابطنا هي أهمّ من الأرقام والإنجازات. هذا الأمر أيضًا يصنع فرقًا في عالم العمل. إذ تقتربون منه، من المهمّ أن تثبّتوا وعيكم بفرادتكم- الّتي لا تعتمد على أيّ نجاح أو فشل- وميولكم لإقامة علاقات صادقة مع الآخرين. عندها ستشكّلون، في العديد من البيئات، ثورة لطيفة.
في العام الماضي، اقترحت عليكم صورة الورشة. في الواقع، كان اقتراب اليوبيل قد بدأ يقلب مدينتنا الجميلة رأسًا على عقب. هذا العام، أقدّم لكم صورة أخرى، تتكرّر في كلّ مكان، حتّى في الرّسائل الّتي تتبادلونها كلّ لحظة. وأعني القلب، الّذي نربطه عادة بالحبّ والصّداقة، ولكنّكم في الحقيقة ستحملونه معكم أيضًا إلى العمل، تمامًا كما ينبض فيكم خلال فترة المدرسة أو الجامعة. في الكتاب المقدّس، القلب هو مكان اتّخاذ القرارات. هناك تولد الطّموحات، ومن هناك تنبعث الأحلام، وهناك نشعر بالمقاومات، وهناك يتسلّل الكسل. أنتم تعرفون قلوبكم: احرسوها! قد تخيفنا قلوبنا أحيانًا، وقد نحاول التّظاهر بعدم سماعها، ولكنّها تبقى ملكًا لنا، ولا يمكن انتهاكها. يمكننا دائمًا أن نعود إليها. وهناك، إذا كان لديكم عطيّة الإيمان، تعرفون أنّ الله ينتظركم بصبر لا متناهي.
أكتب لكم هذه الأشياء لأنّكم، إذ تُطلّون على عالم العمل، سيبدو كلّ شيء سريعًا جدًا. قد تشعرون بالاختناق ممّا يُتوقّع منكم. سيكون هناك، كما يقال، أشخاص تعرفونهم أو لا تعرفونهم يراقبونكم ويضايقونكم: الكثير من الطّلبات، وأحيانًا الكثير من الإرشادات والتّوصيات. في هذه الظّروف، تعلّموا أن تحرسوا على قلوبكم، لكي تبقوا في سلام وأحرارًا. لا تخضعوا لمطالب تُهينكم وتُشعركم بالانزعاج، ولا لطرق وأساليب تلوّث نقاءكم. لكي تقدّموا مساهمتكم، في الواقع لا ينبغي أن تقبلوا بأيّ شيء، بما في ذلك الشّرّ. لا تتبعوا نماذج لا تؤمنون بها، ربّما للحصول على مكانة اجتماعيّة أو المزيد من المال. إنَّ الشّرّ يستعبدنا، ويطفئ أحلامنا، ويجعلنا وحيدين وخانعين. إنَّ القلب يتنبّه لذلك، وعندما يحدث ذلك، عليكم أن تطلبوا المساعدة تتعاونوا مع الأشخاص الّذين يعرفونكم جيّدًا ويحبّونكم. عليكم أن تختاروا.
أيّها الأعزّاء، في عالم العمل ندخل معًا. وليس كلٌّ بمفرده: ونصبح بسرعة تروسًا في آلة، ويمكن لأصحاب السّلطة أن يفعلوا بنا ما يشاؤون. إنَّ الجمعيّات المسيحيّة للعمّال الإيطاليّين الّتي جمعتكم هي مثال تاريخيّ على أهمّيّة الاتّحاد، وتحويل رؤى القلب إلى روابط اجتماعيّة. معًا يمكن تحقيق الأحلام. القلب يبحث عن الصّداقات، ويفكّر عندما لا يكون منعزلّا، ويتدفّأ عندما يتماهى مع الآخرين. إنَّ القلب يعرف كيف يكون مرنًا وسخيًّا. يعرف كيف يتخلّى عن شيء ما، في سعيه وراء المثاليّة. يعرف كيف يضع أهدافًا، لكنّه يتنبّه للأسلوب الّذي يحقّقها به.
وعندما يتمُّ تنظيم العمل بدون قلب، تصبح كرامة الإنسان الّذي يعمل أو لا يجد عملًا، أو يضطرّ إلى قبول عمل غير لائق، في خطر. اليوم، لقد بات الاقتصاد اليوم يدرك أنّ المهارة وحدها لا تكفي، وأنّ الأداء ليس كلّ شيء. لأنَّ الآلات ستكفي لذلك يومًا بعد يوم. أمَّا الذّكاء الإنسانيّ فهو ذكاء القلب، العقل الّذي يشعر بمبرّرات الآخرين، الخيال الّذي يخلق ما لم يوجد بعد، والابتكار الّذي جعلنا الله بفضله مختلفين عن بعضنا البعض. نحن “قطع فريدة”، لنساعد بعضنا البعض على تذكُّر ذلك.
أشكر البالغين الّذين يسيرون معكم، وأقول لهم: لا تفرضوا على الشّباب منطق الواقع القائم، ولا تفسدوا حداثتهم: وإنّما لنمسك بأيديهم ولنعرفهم على الأوقات الطّويلة، وحتّى على ثقل المسؤوليّات، واثقين بما قد زُرع في قلوبهم. أيّها الشّباب الأعزّاء، أشجّعكم على توحيد جهودكم، وبناء شبكات، حتّى على المستوى الدّوليّ، من أجل إصلاح البيت المشترك وإعادة نسج أواصر الأخوّة الإنسانيّة. القلب البشريّ يعرف كيف يرجو. والعمل الّذي لا يستعبد الإنسان بل يحرّره يبدأ من القلب. أطيب التّمنّيات لكم في هذا اليوم! أنا معكم وأبارككم من كلِّ قلبي.”