أمنية ودعوة وجّهها البابا فرنسيس للمشاركين في المؤتمر الدّوليّ حول مستقبل اللّاهوت الّذي نظّمته دائرة الثّقافة والتّربية خلال استقبالهم بالأمس.
وفي كلمته قال البابا بحسب “فاتيكان نيوز”:
“يسعدني أن أراكم وأن أعرف أنّ هذا العدد الكبير من المعلّمين والباحثين والعمداء القادمين من جميع أنحاء العالم قد اجتمعوا للتّأمّل حول كيفيّة وراثة الإرث اللّاهوتيّ العظيم للأجيال الماضية وتصوّر مستقبله. أشكر دائرة الثّقافة والتّربية على هذه المبادرة. وأشكركم أيّها اللّاهوتيّون الأعزّاء، على العمل الّذي تقومون به، والّذي غالبًا ما يكون خفيًّا ولكنّه ضروريّ جدًّا. آمل أن يشكّل المؤتمر الخطوة الأولى لمسيرة مشتركة خصبة. لقد علمتُ أنّ المؤسّسات الأكاديميّة والجمعيّات اللّاهوتيّة وبعضكم بشكل فرديّ قد ساهموا في نفقات سفر الأشخاص ذوي الإمكانيّات القليلة. هذا أمر جيّد جدًّا! سيروا إلى الأمام، معًا!
أريد أن أقول أوّلًا إنّني عندما أفكّر في اللّاهوت، يتبادر إلى ذهني النّور. في الواقع بفضل النّور تخرج الأشياء من الظّلام، وتكشف الوجوه عن ملامحها، وتظهر أشكال العالم وألوانه. إنّ النّور جميل لأنّه يجعل الأشياء تظهر ولكن دون أن تُظهر نفسها. والآن، هنا، نحن نتأمّل في هذه الغرفة، ونرى وجوهنا، لكنّنا لا نرى النّور، لأنّه خفيّ، لطيف، متواضع، وبالتّالي هو يبقى خفيًّا. هكذا هو اللّاهوت أيضًا: هو يقوم بعمل خفيّ ومتواضع، لكي يظهر نور المسيح وإنجيله. من هذه الملاحظة ينشأ طريق لكم: البحث عن النّعمة والبقاء في نعمة الصّداقة مع المسيح، النّور الحقيقيّ الّذي جاء إلى هذا العالم. كلّ لاهوت يولد من الصّداقة مع المسيح ومن المحبّة لإخوته وأخواته وعالمه؛ هذا العالم المأساويّ والرّائع في الوقت عينه، المليء بالألم وإنّما أيضًا بالجمال المؤثّر.
أعلم أنّكم في هذه الأيّام ستعملون معًا حول “أين” و”كيف” و”لماذا” اللّاهوت. لنسأل أنفسنا: أيّها اللّاهوت، أين أنت؟ ومع من تسير؟ ماذا تفعل للبشريّة؟ ستكون هذه الأيّام مهمّة للإجابة على هذه الأسئلة، ولكي نسأل أنفسنا ما إذا كان بإمكان الإرث اللّاهوتيّ للماضي أن يقول شيئًا ما لتحدّيات اليوم وأن يساعدنا على تصوُّر المستقبل. إنّها مسيرة أنتم مدعوّون للقيام بها معًا، أيّها اللّاهوتيّون. أتذكّر ما يخبرنا به سفر الملوك الثّاني. أثناء ترميم هيكل أورشليم، عتمَّ العثور على نصّ، ربّما كان الطّبعة الأولى من سفر تثنية الاشتراع الّذي كان قد فُقد. فقرأه أحد الكهنة وبعض العلماء، ودرسه الملك أيضًا؛ فاستوعبوا منه شيئًا ما، ولكنّهم لم يفهمونه. فقرّر الملك أن يعطيه لامرأة، حلدة، الّتي فهمته على الفور وساعدت مجموعة العلماء- وكلّهم رجال- على فهمه. هناك أشياء لا يفهمها إلّا النّساء واللّاهوت يحتاج إلى مساهمتهنّ. إنّ اللّاهوت الّذي يقتصر على الرّجال فقط هو لاهوت غير مكتمل. وحول هذا الموضوع لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه. والآن اسمحوا لي أن أُسلِّمكم أمنية ودعوة.
الأمنية هي التّالية: أن يساعد اللّاهوت على إعادة التّفكير في الفكر. إنّ أسلوبنا في التّفكير، كما نعلم، يصوغ أيضًا مشاعرنا وإرادتنا وقراراتنا. إنَّ القلب الواسع يتوافق مع مخيّلة وفكر واسعي النّطاق، بينما لا يمكن للفكر المنكمش والمنغلق أن يولِّد الإبداع والشّجاعة. وبالتّالي فإنّ أوّل ما يجب القيام به لإعادة التّفكير في الفكر هو التّعافي من التّبسيط. في الواقع، إنّ الواقع معقّد، والتّحدّيات متنوّعة، والتّاريخ يسكنه الجمال ولكنّه في الوقت نفسه مجروح بالشّرّ، وعندما لا يمكننا أو لا نريد أن يتعامل مع مأساة هذا التّعقيد نحن نميل بسهولة إلى التّبسيط. لكن التّبسيط يريد أن يشوّه الواقع ويولِّد أفكارًا عقيمة وأحاديّة المعنى، ويولِّد استقطابات وتشرذمات. هذا ما تفعله الأيديولوجيّات، على سبيل المثال: هي تحوّل كلّ شيء إلى مجرّد فكرة واحدة، ثمّ تكرّره بعد ذلك بشكل مهووس وذريعيّ.
إنّ التّرياق المضاد للتّبسيط هو ما أشار إليه الدّستور الرّسولي “Veritatis gaudium”: وهو التّخصص البينيّ والتّخصّص المتعدّد. يتعلّق الأمر بـ”تخمير” شكل الفكر اللّاهوتيّ مع أشكال المعرفة الأخرى: الفلسفة، الأدب، الفنون، الرّياضيّات، الفيزياء، التّاريخ، العلوم القانونيّة، السّياسيّة، والاقتصاديّة. علينا أن نخمِّر المعارف لأنّها تشبه الحواس في الجسد: لكلّ منها خصوصيّته، لكنّها بحاجة إلى بعضها البعض، كما يقول الرّسول بولس: “فلو كان الجسد كلّه عينًا فأين السّمع؟ ولو كان كلّه أذنًا فأين الشّمّ؟”. نحتفل هذا العام، بذكرى ٧٥٠ سنة لوفاة اثنين من أعظم اللّاهوتيّين: القدّيس توما الأكوينيّ والقدّيس بونافنتورا. يذكّرنا القدّيس توما الأكوينيّ بأنّنا لا نملك حاسة واحدة فقط، بل حواسًا متعدّدة ومختلفة لكي لا تفوتنا الحقيقة. فيما يؤكّد القدّيس بونافنتورا أنّه بقدر ما “يؤمن الإنسان بيسوع المسيح ويرجو به ويحبّه”، هو “يستعيد السّمع والبصر، والشّمّ، والذّوق واللّمس”. من خلال المساهمة في إعادة التّفكير في الفكر، سيعود اللّاهوت لكي يتألّق كما يستحقّ، في الكنيسة وفي الثّقافات، ويساعد الجميع في البحث عن الحقيقة.
هذه هي الرّغبة. والآن، أودّ أن أترك لكم دعوة: أن يكون اللّاهوت في متناول الجميع. منذ بضع سنوات، وفي أجزاء كثيرة من العالم، نرى اهتمامًا من قبل البالغين باستئناف تنشئتهم، بما في ذلك التّنشئة الأكاديميّة أيضًا. رجال ونساء، ولاسيّما في منتصف العمر، وربّما يكونون قد تخرّجوا أيضًا، يرغبون في تعميق إيمانهم، ويرغبون في أن يقوموا بمسيرة، وغالبًا ما يلتحقون بكلّيّة جامعيّة. إنّها ظاهرة متنامية تستحقّ اهتمام المجتمع والكنيسة. إنّ منتصف العمر هو مرحلة مميّزة من الحياة. إنّه من يتمتّع فيه المرء عمومًا بنوع من الأمان المهنيّ والثّبات العاطفيّ، ولكنّه أيضًا مرحلة يشعر فيها المرء بالفشل بألم أكبر وتظهر فيها أسئلة جديدة مع تفتت أحلام الشّباب. في هذه المرحلة، يمكن للمرء أن يشعر بحسّ من الخذلان، وفي بعض الأحيان، تتوقّف النّفس. وعندها يشعر المرء بالحاجة إلى استئناف البحث، ربّما بطريقة متردّدة، وربّما بمساعدة يد تمسك به. وهنا يأتي دور اللّاهوت، كرفيق في هذه الرحلة! من فضلكم، إذا طرق أحد هؤلاء الأشخاص باب اللّاهوت أو مدارس اللّاهوت، فليجدها مفتوحة. احرصوا على أن يجد هؤلاء النّساء والرّجال في اللّاهوت بيتًا مفتوحًا، ومكانًا يمكنهم فيه استئناف مسيرتهم، والبحث، والعثور، ثمّ البحث من جديد. إستعدّوا لذلك. تخيّلوا أشياء جديدة في برامج الدّراسة، لكي تجعلوا اللّاهوت في متناول الجميع.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد قيل لي إنّ هذا لن يكون مؤتمرًا تقليديًّا، يتحدث فيه عدد قليل من الأشخاص ويستمع الآخرون. لقد سمعت أنّكم جميعًا ستكونون في وضع يسمح لكم بالإصغاء والتّعبير. ممتاز! يمكننا أن نتعلّم من الجميع. أطلب من دائرة الثّقافة والتّربية أن تطلعني على نتائج عملكم، الّذي أشكركم عليه مسبقًا. أبارككم من كلّ قلبي. ومن فضلكم، لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.”