23 ديسمبر 2024
الفاتيكان

باب الثّقة… عنوان التّأمّل الميلاديّ الفاتيكانيّ الثّاني

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الأب روبرتو بازوليني، يوم الجمعة، تأمّله الثّاني لزمن المجيء في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان بحضور البابا فرنسيس، تحت عنوان: “باب الثّقة”.

وفي تفاصيل العظة، قال بحسب “فاتيكان نيوز”: “لقد بدأنا تأمّلاتنا في زمن المجيء وسمحنا بأن يرشدنا صوت الأنبياء الّذين يمكنهم أن يرشدونا إلى الأبواب الّتي يجب أن نمرّ منها لكي نفتح قلوبنا على فرح الإنجيل ومسؤوليّته. بعد أن فتحنا باب الدّهشة، نحاول اليوم أن ندخل من باب الثّقة. إنَّ الثّقة ليست عاطفة ساذجة، بل هي خيار شجاع ينبع من رؤية عميقة للواقع. يعلّمنا أنبياء العهد القديم أنّ الثّقة تعني الحفاظ على الرّجاء حيًّا حتّى في أوقات المحنة واليأس. لنستمع إلى مثلين نبويّين يدعواننا إلى النّظر إلى بعض عناصر العالم الطّبيعيّ: أوّلًا أوراق الأشجار، ثمّ المطر والثّلج.

أحد الأمثال: “الثّقة خير، وعدم الثّقة أفضل”. وبالنّظر إلى الواقع بانتباه وقراءة الكتب المقدّسة، ربّما يمكننا أن نعيد صياغة هذا المثل بهذه العبارات: “الثّقة هي خير، ولكنّنا غالبًا ما نفشل في القيام بذلك”. في هذا الصّدد، نجد حدثًا في الكتاب المقدّس يوضح آليّة الخوف الّتي تمنعنا في كثير من الأحيان من القيام ببوادر الثّقة الّتي نحتاج إليها. نحن هنا في سياق ما يسمّى بالحرب السّريانيّة- الأفراميّة، عندما شنّ ملوك إسرائيل (أفرايم) وسوريا (آرام) حربًا ضدّ ملك يهوذا، آحاز، من أجل الإطاحة به وتنصيب أحد حلفائهم على العرش، وبالتّالي تقوية أنفسهم ضدّ تهديد أشور الّذي كان يلوح في الأفق. في أحد الأيّام، وبينما كان ملوك الأعداء يتقدّمون نحو أورشليم، يُقال إنّ قلب آحاز دخل في اضطراب عظيم، “اضطراب شجر الغاب في وجه الرّيح”. في هذا الظّرف من الضّيق الشّديد بسبب تهديد وشيك، دعا الرّبّ النّبيّ أشعيا لكي يوجّه دعوة فريدة إلى الملك: “اخرج للقاء آحاز، أنت وشآر ياشوب آبنك، إلى آخر قناة البركة العليا، إلى طريق حقل منظّف الثّياب، وقل له: تنبّه وكن هادئًا، ولا تخف ولا يضعف قلبك من ذنبي هاتين الجمرتين المدخّنتين بسبب آضطرام غضب رصين، ملك أرام، وآبن رمليا. فإنّ أرام وأفرائيم وآبن رمليا قد تآمروا عليك بالسّوء قائلين: لنصعد على يهوذا ونروّعه ونحطّمه تحتنا ونملك فيه آبن طابئيل. هكذا قال السّيّد الرّبّ: لا يقوم الأمر ولا يكون لأنّ رأس أرام هو دمشق ورأس دمشق هو رصين وبعد خمس وستّين سنة يحطّم أفرائيم فلا يبقى شعبًا، ولأنّ رأس أفرائيم هو السّامرة ورأس السّامرة هو آبن رمليا وأنتم إن لم تؤمنوا فلن تأمنوا”.

إنَّ الرّسالة واضحة جدًّا: لا شيء يدعو إلى الخوف، لأنّ الجيشين لن ينجحا في احتلال أورشليم، وعليه فقط أن يستمرّ في الثّقة بالرّبّ. لقد دُعي النّبيّ لكي يتلفّظ بكلمة مُطمئنة هنا، في نقطة الضّعف الأكبر في أورشليم. الرّسالة هنا واضحة، ولكنّها ليست مطمئنة تمامًا: إنّ الله سيوفّر لأورشليم دعمه، كما يفعل مع المياه الّتي تأتي من الخارج؛ ولكن هذه العناية ليست موردًا يمكنه أن يتصرّف فيه كما يشاء، بل شيء لا يمكنه إلّا أن يثق به. ولسوء الحظّ، لم يتمكّن الملك من أن يثق بكلام النّبيّ وقرّر أن يتحالف مع ملك أشور الّذي أصبح تابعًا له. لكنَّ الرّبّ الإله لم يمتنع عن إخبار الملك بعواقب خياره الّذي أملاه عليه الخوف: “لأنّ هذا الشّعب قد نبذ مياه سلوام الجارية رويدًا رويدًا، وفرح بأمر رصين وآبن رمليا، فلذلك ها إنّ السّيّد يعلي عليهم مياه النّهر العظيمة الغزيرة (ملك أشور كلّ مجده)، فيعلو على جميع مجاريه، ويطفو على جميع شطوطه، ويمرّ يهوذا ويطفح ويعبر ويبلغ إلى العنق”. لم يعرف الملك كيف يؤمن بعناية الله. وفضّل أن يتّكل على القويّ، على ملك أشور الّذي دحر بجيشه أعداءه، فجنّب ملك أورشليم وسكّانها خطر المعركة، ولكنّه حوّلهم إلى عبيد له. في لحظة التّجربة، تخلّى آحاز عن طلب آية من الله لكي يتمكّن من أن يتكّل على الصّوت النّبويّ. هذا الموقف أرهق قلب الله الّذي، مع ذلك، لم يتوقّف عن بقائه أمينًا لوعوده بالخير للشّعب. وهكذا أصبحت لحظة عدم الثّقة الّتي عاشها آحاز مناسبة لنبوءة عمّانوئيل الشّهيرة الّتي نسمعها نحن المسيحيّين في كلّ مجيء، كنبوءة غامضة عن ولادة كلمة الله في جسدنا البشريّ: “فلذلك يؤتيكم السّيّد نفسه آية: ها إنّ الصّبيّة تحمل فتلد آبنًا وتدعو اسمه عمّانوئيل.”

هذه الثّقة الّتي يبقى بها الله قريبًا منّا، حتّى عندما نظهر أنفسنا غير جديرين بالثّقة، تذهب أبعد من مجرّد التّفاؤل. وفي نصّ نبويّ آخر، يشرح الله موقفه هذا، ويوضح كيف أنّ أسلوبه في التّصرّف يختلف عن أفكارنا وطرقنا: “لأنّه كما ينزل المطر والثّلج من السّماء ولا يرجع إلى هناك دون أن يروي الأرض ويجعلها تنتج وتنبت لتؤتي الزّارع زرعًا والآكل طعامًا، فكذلك تكون كلمتي الّتي تخرج من فمي: لا ترجع إلي فارغة بل تُتمُّ ما شئتُ وتنجح فيما أرسلتها له”. كيف يمكن أن يكون الله واثقًا إلى هذا الحدّ من أنّ كلامه لن يجد آذانًا صمّاء، على الرّغم من كلّ الشّكوك والخيانات الّتي نحن قادرون عليها؟ هل لله ثقة كبيرة في قدرته على إيصال ما هو عزيز عليه، أم في استعدادنا لفهم دعواته والالتزام بها؟ ربما لا هذا ولا ذاك: علينا أن نبحث عن الأسباب في مكان آخر. فمن ناحية، تنبع هذه النّظرة المتفائلة من حقيقة أنّ الله لا ينطق أبدًا بكلام لا يكون مقتنعًا به اقتناعًا عميقًا، ويكون مستعدًّا لدفع الثّمن حتّى النّهاية. بما أنّ الله هو منذ البداية كلمة، فهو يعرف جيّدًا قوّة الكلام، ولكنّه يعرف أيضًا ضعفه. وإذ اختار الله أن يستخدم الكلام ليعطي الحياة لكلّ الأشياء والحوار ليغذّي كلّ علاقة، فقد نبذ الله خلقًا تحدث فيه الأشياء استجابة لمنطق ميكانيكيّ لخوارزميّة معيّنة. ومع ذلك، ولأنّه منذ البدء هو أيضًا محبّة، فإنّ الله يعرف جيّدًا كيف أنّ التّقدير هو العنصر الأكثر ضرورة لكي يتمكّن الأشخاص من إظهار أفضل ما في أنفسهم. وبالتّالي فإنّ الكلمة الّتي يتوجّه بها أشعيا إلى شعب منفيّ، ويدعوه لكي يتذكّر خصب المطر والثّلج العجيب، ليست صورة ساذجة جدًّا ولا مثاليّة جدًّا. وإنّما هي ببساطة تعبّر عن تلك النّظرة الّتي يستطيع الله أن يبقيها علينا. إنّه سرّ الاحترام والمحبّة عينه الّذي تعلّم المسيحيّون الأوائل أيضًا أن يؤمنوا به، من خلال التّأمّل في سرّ المسيح: “إذا متنا معه حيينا معه وإذا صبرنا ملكنا معه وإذا أنكرناه أنكرنا هو أيضًا، وإذا كنّا غير أمناء ظلّ هو أمينًا لأنّه لا يمكن أن ينكر نفسه”.

ننتقل الآن بنظرنا إلى شخصيّتين، وهذه المرّة هما رجلان، تظهر فيهما جوانب مدهشة من الثّقة لا نوليها أحيانًا الاهتمام اللّازم. الأولى هي شخصيّة رجل لا ينتمي إلى شعب إسرائيل، والّذي يتجلّى فيه شيء جميل جدًّا لدرجة أنّه ينتزع من يسوع مديحًا غير عاديّ، بحيث يثير الإعجاب وربّما حتّى الحسد بين الحاضرين: “أقول لكم: لم أجد مثل هذا الإيمان حتّى في إسرائيل”. إنّه قائد المئة الرّومانيّ، وهي شخصيّة تجعلنا قراءات أيّام الأسبوع نلتقي بها كلّ عام في زمن المجيء. “ولمّا أتمّ جميع كلامه بمسمع من الشّعب، دخل كفرناحوم. وكان لقائد مائة خادم مريض قد أشرف على الموت، وكان عزيزًا عليه”. تبدأ القصّة بحقيقة: خادم في حالة مرضيّة ومشرف على الموت. سيّده، وهو قائد المئة في الجيش الرّومانيّ، يتّخذ قرارًا بعيدًا عن البديهيّات: يتولّى أمر حالته المرضيّة، ويفعّل كلّ المساعدات الّتي تحت تصرّفه: “فلمّا سمع بيسوع، أوفد إليه بعض أعيان اليهود يسأله أن يأتي فينقذ خادمه. ولمّا وصلوا إلى يسوع، سألوه بإلحاح قالوا: “إنّه يستحقّ أن تمنحه ذلك، لأنّه يحبّ أمّتنا، وهو الّذي بنى لنا المجمع. فمضى يسوع معهم”. على الرّغم من عدم انتمائه لشعب إسرائيل، إلّا أنّ قائد المئة هذا يحاول أن يثق بالمخلِّص الّذي سمع عنه فقط، وبالشّيوخ الّذين يستطيعون أن يتشفّعوا له ولعبده المريض. أكثر من مجرّد رجل يستحقّ أن ينال معروفًا، يظهر قائد المئة كشخص يهتمّ بحياة الآخرين واحتياجاتهم. وقد أُعجب يسوع بهذه الشّخصيّة، فانطلق بدون تردّد نحو بيته حيث تحمل لنا القصّة مفاجأة أخرى. لعلمه أنّ اليهوديّ الملتزم يتنجّس بدخوله بيت شخص وثنيّ، عبّر قائد المئة عن لفتة اهتمام إضافيّة بيسوع: “وما إن صار غير بعيد من البيت، حتّى أرسل إليه قائد المائة بعض أصدقائه يقول له: “يا ربّ، لا تزعج نفسك، فإنّي لست أهلًا لأن تدخل تحت سقفي، ولذلك لم أرني أهلًا لأن أجيء إليك، ولكن قل كلمة يشف خادمي.” 

إنّ إنسانيّة هذا الغريب تكشف عن جمال لمس قلب يسوع في العمق. إنّ قائد المئة، على الرّغم من رغبته في استضافة المعلّم في بيته، فقد تجنّب أن يضعه في موقف صعب. لهذا السّبب أوكل الرّسالة إلى بعض الأصدقاء، وعرض على يسوع إمكانيّة إجراء المعجزة دون أن “تتّسخ يداه” معه. لم يكن لديه أيّ شكّ: إذا كان يسوع حقًّا مرسل من الله، فإنّ كلمة واحدة تكفي لتغيير الأمور. وخرجت منه عبارة رقيقة جدًّا ومليئة بالاحترام إلى درجة أنّها أُدرجت في ليتورجيّتنا المسيحيّة: “يا ربّ، لستُ مستحقًّا أن تدخلَ تحتَ سقفي، ولكن قُلْ كلمةً واحدةً فتبرأ نفْسي”. على الرّغم من تكييف النّصّ الإنجيليّ مع الظّرف اللّيتورجيّ، إلّا أنَّ تعجّب قائد المئة معروف بكلّ قوّته وجماله. لماذا اعتبر تقليد الكنيسة هذه العبارة ثمينة جدًّا؟ لماذا اختيرت للتّعبير عن الإيمان بالمسيح تحديدًا في لحظة المناولة الإفخارستيّة؟ على المستوى الأوّل، تعبّر هذه الكلمات عن ثقة كبيرة بالرّبّ يسوع وكونه كلمة الخلاص النّهائيّة من قبل الله. إن طلبنا من الله أن يكلّمنا بكلمة الله هو، في الواقع، التّرياق المضادّ لخطيئة آدم. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نغفل جانبًا آخر. فقائد المئة يعبّر عن إيمانه بيسوع- وبالتّالي بالله- في الوقت الّذي يحرص فيه على عدم وضعه في موقف صعب. وهكذا، هناك إعلان للإيمان بالله يتمّ التّعبير عنه في اهتمام دقيق بالإنسان واحتياجاته الأساسيّة. ربّما لا يكون هذان الموقفان- الإيمان بالله والاهتمام بالقريب- قابلين للفصل كما نعتقد أحيانًا. فإيماننا بالله يكون أصيل بقدر ما نؤمن أنّ الثّقة والودّ لا يكونان أبدًا فائضين في علاقاتنا. لا يتعلّق الأمر بإظهار ذلك الودّ الّذي يتأثّر إلى حدّ التّملّق والتّزييف. وإنّما بإيجاد الوقت- والطّريقة- دائمًا لكي نضع أنفسنا مكان الشّخص الآخر لكي لا نخلق أبدًا أيّ إزعاج له، عندما يكون ذلك ممكنًا بالنّسبة لنا.

لنلاحظ أيضًا تفصيلًا آخر. إنّ قائد المئة لديه رأي إيجابيّ جدًّا في يسوع، لأنّه في الواقع معتاد على أن يفكّر جيّدًا في كلّ شيء وكلّ شخص: “فأنا مرؤوس ولي جند بإمرتي، أقول لهذا: اذهب! فيذهب، وللآخر: تعال! فيأتي، ولخادمي: افعل هذا! فيفعله”.  من المؤكّد أنّ هذا الضّابط الرّومانيّ ليس ساذجًا. فهو يصادف كلّ يوم بعض المرؤوسين الّذين يعصون أو يخونون، كما أنّه على علم بأمانة وإخلاص كثيرين آخرين يقومون بواجبهم بتواضع. أمام هذه الطّريقة في النّظر إلى الأمور، كان لدى يسوع حركة إعجاب لا يمكن كبتها: “فلمّا سمع يسوع ذلك، أعجب به والتفت إلى الجمع الّذي يتبعه فقال: “أقول لكم: لم أجد مثل هذا الإيمان حتّى في إسرائيل”. ما الّذي أثار إعجاب يسوع بهذا الرّجل؟ القدرة على أن يكون لديه مثل هذا الإيمان العظيم في كلّ شيء وفي كلّ شخص لدرجة أنّه كان قادرًا على أن يولّد حلقة فاضلة من الصّداقة والتّضامن. لم يكن قائد المئة يشكُّ في أيّ شيء أو أيّ شخص، بل كان لديه بطريقة طبيعيّة جدًّا انفتاح ثقة تجاه كلّ شخص يتواصل معه. أليس هذا ما نحتاج إليه؟ أليست هذه هي نظرة الله إلى كلّ واحد منّا؟ لهذا السّبب لا يدعوه يسوع ببساطة “إنسانًا صالحًا”، بل صاحب إيمان عظيم. إنّ إيمان قائد المئة ليس سوى تجلٍّ لإنسانيّة واضحة ومنفتحة وسليمة، يمكن رؤيتها وإدراكها ليس من خلال أشكال التّديّن الخارجيّ، بل ببساطة في طريقته في التّصرّف والتّواصل مع الآخرين. وهذا تذكير قويّ لنا ولمسيرتنا في الإيمان الّتي غالبًا ما نجد أنفسنا فيها منغلقين وغير واثقين وأنانيّين وغير مبالين. ثمّ هناك جانب أخير يجب أن نتأمّله في خاتمة هذه القصّة. إنّ يسوع لم يدخل يسوع بيت قائد المئة، لكن خادمه قد شفي: “ورجع المرسلون إلى البيت، فوجدوا الخادم قد ردّت إليه العافية”. إنَّ قائد المائة لا يظهر في الإنجيل إلّا من خلال أصوات الآخرين، بدون أن يظهر نفسه أبدًا. يقول عنه يسوع شيئًا جميلاً قرأته أجيال من الرّجال والنّساء وتأمّلوا فيه، معيدًا تعريف فئات الإيمان الحقيقيّ وفقًا لمعيار الإنسانيّة الرّائعة. كذلك، هذان الشّخصان لم يلتقيا ولم يتكلّما مع بعضهما البعض بشكل مباشر، ومع ذلك فقد نشأت علاقتهما وتوطّدت، لدرجة أنّها أصبحت بشرى سارّة لكلّ من يبحث عن وجه الله. وربّما حتّى في هذه الإمكانيّة، أن نكون قادرين على التّواصل مع الله بدون أن نراه أو نلتقي به، علينا أن نتحلّى بثقة كبيرة.

أيقونة أخرى للثّقة نريد أن نتأمّلها هي أيقونة يوسف، خطّيب مريم. في مخطّط الله، يبدو أنّ يوسف لا يستطيع أن يدخل في مخطّط الله إلّا تدريجيًّا، ومن الخارج. فيُجبر يوسف على فهم عمل الله من نتائجه المباشرة. هكذا يتصرّف الرّبّ معنا أيضًا. فبدلًا من أن يشرح لنا ما سيحدث ويخبرنا بما يجب أن نفعله، ينجز الله الأمور ثمّ ينتظرنا لنلاحظها، ونحاول أن نتحمّلها بمسؤوليّة وذكاء محبّة متجدّد. يقدِّم الكتاب المقدّس يوسف كشخص مستعدّ لكي يعيد تعريف نفسه ليس انطلاقًا من نفسه وإنّما من الظّروف. وتبدو شخصيّته واضحة جدًّا منذ البداية، عندما يضع متّى اسمه في ذروة سلسلة نسب المسيح الطّويلة والدّقيقة. كذلك يُظهر ردّ فعل يوسف على حمل مريم الّذي لا يمكن فهم سمات رجولة مميّزة جدًّا. على الرّغم من أنّه كان مشوّشًا بسبب مصير لم يكن يتخيّله، إلّا أنّ يوسف لم يتفاعل بغضب مع ما يحدث له. بل على العكس، انبعث من إنسانيّته حنان مدهش قاده لي يدافع بشكل كامل الأشخاص الصّغار والأشدّ ضعفًا الموضوعين بجانبه: مريم والطّفل.

للأسف، يظهر يوسف في الرّأي الشّائع كشخصيّة ضعيفة وثانويّة ولكن إذا قرأنا النّصوص بذكاء، نجد أنَّ الأمور ليست كذلك، لأنّه، كما ذكّرنا الأب الأقدس في رسالته الرّسوليّة: ” Patris Corde “: ” إنّ يوسف ليس رجلاً مستسلمًا سلبيًّا. وإنّما موقفه هو موقف شجاعة وريادة”. فعندما علم يوسف أنّ شيئًا عظيمًا وغامضًا يحدث في مريم، شيء ليس هو المسؤول عنه، لم يفهم الكثير، لكنّه أدرك أمرًا واحدًا مهمًّا: لقد حان الوقت لكي يحبّ أكثر، أكثر بكثير ممّا كان يتصوّر أنّه عليه أن يحبّ. هذا هو أوّل تأثير لكلّ تدخّل إلهيّ في التّاريخ البشريّ: الإشارة إلى أنّه علينا أن نذهب أبعد من تدابير الحكمة والملاءمة الّتي أخذناها في عين الاعتبار ونتخطّاها. “وكان يوسف زوجها بارًّا، فلم يرد أن يشهر أمرها، فعزم على أن يطلّقها سرًّا”. لكونه رجلاًً بارًّا ومدركًا لشريعة الله، كان يوسف يعلم جيّدًا أنّ مريم تواجه خطر الرّجم بسبب حملها خارج إطار الزّواج. وبطبيعة الحال، يواجه الطّفل أيضًا خطر أن يموت مع أمّه. ويفسّر يوسف ضرورة البقاء “بارًّا” بطريقة غاية في الحساسيّة والذّكاء: بدلًا من أن يُنزل العدالة أو يبحث عن الانتقام، يحاول يوسف يُصلح نفسه لكي يتأقلم مع الوضع الّذي وجد نفسه فيه. في اللّحظات الّتي نجد فيها أنفسنا محاصرين، غالبًا ما نسعى لتغيير الآخرين أو الظّروف المحيطة، ملتجئين إلى مثاليّة العدالة لتجنّب تحمّل مسؤوليّة خطوات صغيرة وعمليّة. ومع ذلك، فإنّ أصدق أفعال العدالة لا تكون في إصلاح ما يزعجنا أو لا يعجبنا، بل في محاولة تغيير أنفسنا، وإعادة تشكيل توقّعاتنا وفق احتياجات أو صعوبات من هم حولنا. وبالتّالي فإنّ اختيار يوسف لعدم تعريض مريم لحكم شيوخ القرية، وإنّما تخليتها بطريقة سرّيّة، ليس حيلة للهرب من موقف صعب. بل هو قرار قويّ وشجاع وسخيّ، ينحاز إلى جانب الأضعف بدون شروط. إنَّ يوسف لم يفهم بعد مخطّط الله— وكيف يمكنه أن يفهمه؟— ولكنّه تصرّف بأكثر الطّرق عدلًا في موقف لا توجد فيه حلول جاهزة.

على الرّغم من أنّه يجسّد السّمات التّقليديّة للرّجولة، تمكّن يوسف من أن يتخيّل نفسه كرحم لمريم، وخلق في داخله مساحة استقبال لثمرة لم تولد من بذره، ولكنّها بحاجة إلى أن تحمل اسمه. حاول أن يتحلّى بالثّقة، وقبل ما لم يختره أو يتخيّله، ومع ذلك فهو موجود. هذه هي الطّريق لكي نكتشف فرحًا خفيًّا في قلب أصعب القرارات. إنَّ يوسف لم يفهم بعد تمامًا كيف يمكنه أن يدعم مريم بدون أن يزيد من صعوباتها، ولكنّه بقي في حالة انتظار واعٍ، محاولًا أن يرى الموقف بعيني الله: “وما نوى ذلك حتّى تراءى له ملاك الرّبّ في الحلم وقال له: “يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم إلى بيتك. فإنّ الّذي كون فيها هو من الرّوح القدس، وستلد ابنًا فسمّه يسوع، لأنّه هو الّذي يخلّص شعبه من خطاياهم”. من خلال الحلم، لم يناقض ملاك الرّبّ مشروع يوسف، بل ساعده لكي يفهم تبعاته بشكل أعمق. وإذ كشف له الملاك أنّ هذا الحمل هو من الرّوح القدس، أكّد له أنّ قراره بالوقوف إلى جانب مريم والطّفل كان صائبًا تمامًا. ولكنّه لا يحتاج إلى أن يشعر بأنّه غريب عن هذا المشروع، ولا لأن يُطلِّق مريم سرًّا. وبالتّالي ما زال بإمكان يوسف “أن يأخذ” مريم كزوجة، ويقيم معها علاقة مختلفة عن تلك الّتي تخيّلها، لكنّها بنفس القدر من الأصالة والعمق. في الظّلام الّذي كان يوسف يعيش فيه، أشعل الله نورًا رائعًا: يمكن قبول الواقع، مهما كان غير مفهوم. لقد تحرّر إبداع يوسف أمام إعلان عظمة دُعي للمشاركة فيها. في الواقع، لا يوجد طريقة أخرى لتحرير الطّاقة الكامنة داخلنا سوى الإيمان بأنّ الله يعتبر حياتنا ثمينة ولا غنى عنها في مخطّط محبّته. إنَّ الثّقة الّتي يضعها أحدهم فينا هي الّتي تحفّز كلّ طاقاتنا الإبداعيّة.

عندما أدرك يوسف أنّ الله يحاول إنقاذ العالم ليس فقط بطلب الضّيافة في رحم مريم، وإنّما أيضًا في قلبه الأبويّ، اكتشف أنّه يريد السّير في طريق جديد لم يسلكه أحد من قبل: أدرك أنّه يمكنه أن يأخذ بدون أن يمتلك، وأن يتّحد بزوجته وهو واقف عند عتبة السّرّ الّذي يتحقّق فيها: “فلمّا قام يوسف من النّوم، فعل كما أمره ملاك الرّبّ فأتى بامرأته إلى بيته، على أنّه لم يعرفها حتّى ولدت ابنًا فسمّاه يسوع”. إنَّ هذا الاستعداد للاستقبال، بدون فهم كامل لما يحدث، ليس سمة حصريّة لمسيرة يوسف، بل هو موقف من الثّقة يتطلّبه الحبّ من الجميع. واليوم، تمرّ العلاقات العاطفيّة بمرحلة مليئة بالصّعوبات. يبدو أنّ تحقيقها أصبح مستحيلًا لأنّنا لم نعد نعرف كيف نجسّد تلك المجّانيّة الّتي كان يوسف شاهدًا منيرًا لها. هذا الأمر يفسّر لماذا تنقطع الكثير من مسارات الحبّ والتّكرُّس بسهولة. لقد أدركنا أخيرًا أنّ الحبّ يبدأ كمنحدر سهل، لكنّه يتحوّل لاحقًا إلى صعود مؤلم. إنَّ الحبّ يجرّدنا، ولا يُلبسنا. ومع ذلك، في هذا الزّمن الّذي يعطي اهتمامًا كبيرًا بالمشاعر الشّخصيّة، لا يمكننا أن نتجاهل إحساسًا آخر: أنّ الحبّ ليس فقط موجودًا، بل هو مقدّر لأن يكتمل، رغم عثراته الكثيرة والمؤلمة. نشعر جميعًا برغبة عميقة في علاقات حقيقيّة، متأصّلة في قلب حرّ وعميق، مثل القلب الّذي سار به يوسف بثقة مع عروسه، مريم.

إنَّ باب الثّقة، الّذي أشار إليه الأنبياء، وشهد له قائد المئة المجهول الهويّة، ويوسف البارّ، يفتح أمامنا فسحة من الحرّيّة العظيمة. لكي نعبره، لا يكفي أن نظهر أو نتظاهر ببعض التّفاؤل تجاه الواقع. بل يجب أن نوجّه أنظارنا نحو الله ونُشرِّع قلوبنا لعمل روحه القدّوس. إنَّ ثقة الله بنا هي الّتي تعيد تنشيط أفضل ما فينا من موارد وإمكانات. وإذا استطعنا استعادة الثّقة، ليس فقط بالله، وإنّما أيضًا بأنفسنا وبالآخرين، قد لا نشهد تغييرات كبيرة حولنا. ولكنّنا سنكتشف أنّنا قادرون على أن نُعجب بحياة الآخرين بدون أحكام باطلة أو غير ضروريّة، وبشكل طبيعيّ. سنعرف أيضًا كيف نعانق الواقع، حتّى عندما يكون غير مريح أو مزعجًا، من خلال تعديل قلوبنا وإعادة تشكيل توقّعاتنا. وسنكون سعداء بالإيمان بأنّ الواقع، كما هو، يمكنه أن يكون فسحة للسّعادة، لأنّه المكان الّذي اختار الله أن يكون فيه معنا، إلى الأبد.”