في الأحد السّابع والأخير من زمن الصّليب، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي.
وللمناسبة ألقى عظة بعنوان: “كنت جائعًا، فأطعمتموني” (متّى 35:25)، قال فيها:
“1. هذا الأحد هو الأخير من زمن الصّليب، زمن النّهايات والواقعات الجديدة. وهو أحد الدّينونة العامّة الّتي يجريها المسيح في مجيئه الثّاني والأخير، فيجلس على عرشه ملكًا، بعد أن أتى في مجيئه الأوّل مخلّصًا للبشر أجمعين، وفاديًا لكلّ إنسان. وكان يأتي في كلّ يوم طالبًا من كلّ إنسان شهادة له: “كنت جائعًا، فأطعمتموني” (متّى 35:25).
2. يسعدني ان أرحّب بكم جميعًا، بعد عودتي من روما حيث تشرّفت بمقابلة قداسة البابا فرنسيس وقدّمت له ثلاث وثائق عرضت فيها لقداسته: أوّلاً: الوضع السّياسيّ الرّاهن في لبنان ومسألة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة.
ثانيًا: الوضع الإنسانيّ والاجتماعيّ في ظلّ العدوان الحاصل على لبنان وقضيّة النّزوح ومواكبة الكنيسة ومؤسّساتها له.
وثالثًا: بيان القمّة الرّوحيّة المسيحيّة- الإسلاميّة الّتي انعقدت يوم الأربعاء 16 الجاري في بكركي. وأكّد قداسته صلاته الدّائمة للبنان وشعبه كما أبدى حرصه الشّديد على المحافظة على دور لبنان ورسالته في التّعدّديّة والحوار بين الأديان وعلى رسالة المسيحيّين فيه. بعد لقائي مع قداسة البابا التقيت نيافة الكردينال بياترو بارولين أمين سرّ حاضرة الفاتيكان وناقشنا بمواضيع الوثائق الثّلاث المذكورة.
وفي الفاتيكان ايضًا، شاركت في احتفال تقديس الطّوباويّين الاخوة المسابكيّين الثّلاثة فرنسيس وعبد المعطي وروفائيل، الأحد الماضي 20 تشربن الأوّل، مع عدد من مطارنة كنيستنا المارونيّة وثمنمائة شخص مارونيّ أتوا من مختلف المناطق اللّبنانيّة ومن دمشق ومن سائر بلدان الانتشار مع مطارنتهم، بالإضافة إلى البطاركة والكرادلة والمطارنة المشاركين في سينودس الأساقفة الرّومانيّ، الّذي يختتم أعماله اليوم بقدّاس يترأّسه قداسة البابا فرنسيس. وأقمت مساء الاثنين الماضي قدّاس الشّكر للّه على عطيّة الشّهداء القدّيسين الثّلاثة، وللقدّيسين أنفسهم، ولقداسة البابا فرنسيس الّذي أمر بكتابة أسمائهم في سجلّ القدّيسين، وبالاحتفال بعيدهم في جميع الكنائس في العاشر من تمّوز، ذكرى استشهادهم سنة 1860.
3. القدّيسون الأخوة المسابكيّون الثّلاثة هم أخوة علمانيّون موارنة من دمشق، كانوا يعيشون حياة مسيحيّة مثاليّة كلّلوها باستشهادهم في أحداث 1860 المؤلمة الّتي راح ضحيّتها اثنا عشر ألف بين موارنة ومسيحيّين في سوريا ولبنان.
ففرنسيس تاجر الحرير المعروف بنزاهته في دمشق ولبنان، وصاحب ثروة كبيرة نالها بضميره المهنيّ الحيّ، وكان رجل صلاة يوميّة، ويحضر القدّاس الإلهيّ ويتناول جسد الرّبّ كلّ يوم مع عبادة خاصّة للسّيّدة العذراء. وقد ظهرت الفضائل المسيحيّة على محيّاه وفي كلامه وتصرّفاته وأعماله. كان ربُّ عائلة مؤلّفة من ثمانية أولاد.
وعبد المعطي قضى حياته بالتّعليم والتّدريس في مدرسة الفرنسيسكان، وبشهادة ابنه نعمه، كان بعد صلاته اليوميّة الصّباحيّة، يذهب إلى كنيسة الفرنسيسكان، ويحضر القدّاس، وهو جاث على ركبتيه، ويتقدّم من سرّ المناولة الإلهيّة. ويوم خميس الأسرار مساءً يذهب إلى الكنيسة ويجثو على ركبتيه نصبًا إلى الصّباح، ويبقى في الدّير إلى ليل الأحد عند منتصف اللّيل، فيمضي إلى الكنيسة المارونيّة لأجل حضور القدّاس والمناولة الفصحيَّة. كان ربُّ عائلة مؤلّفة من خمسة أولاد.
وروفائيل، رجلٌ تقيٌ يعيش في كنف إخوته. وكان مثال الطّهارة والبساطة المسيحيّة. كان يخدم عائلتي شقيقيه والرّهبان الفرنسيسكان الّذين كان يزورهم يوميًّا. وكان متبتّلًا كلّ حياته.
4. بالعودة إلى إنجيل اليوم، فإنّا على المحبّة سندان. وقد فصّلها المسيح الرّبّ في ستّة قطاعات مادّيّة وروحيّة وثقافيّة وأخلاقيّة.
فالجوع يشمل الحاجة إلى الخبز والغذاء من جهة، وإلى العلم والتّربية، وإلى اعتبارٍ وتفهّم من النّاس.
والعطش يمتدّ من الماء إلى الحقيقة والعدالة والمحبّة والحرّيّة، وتحقيق الذّات والحلم في تحقيق مشروع الحياة.
والغربة تطاول الشّخص الموجود في أرض وبلد وبيئة غريبّة لا ينتمي إليها. لكنّها تمتدّ إلى كلّ من يشعر بغربة بين أهله، بسبب عدم تفهّمهم له ولأفكاره الجديدة ولتطلّعاته؛ أو في مجتمعه الّذي لا يتقبّله لأنّه مختلف في أصله ودينه وثقافته وانتمائه السّياسيّ وجنسيّته.
والعري لا يقتصر على اللّباس وأثاث البيت، كما هي حالة الفقر المدقع، وحالة النّازحين والمهجّرين قسرًا من بيوتهم، بل يشمل انتهاك الصيت والكرامة بالنميمة والكذب، وبالكلام الباطل.
والمرض متنوّع: فثمّة الأمراض الجسديّة والأمراض العصبيّة والعقليّة والفيزيولوجيّة والنّفسيّة. وتوجد الأمراض الرّوحيّة مثل حالة الخطيئة والبغض والحقد والميل إلى الشّرّ، واليأس؛ والأمراض الأخلاقيّة كالكبرياء والادّعاء والدّعارة الجنسيّة والإدمان على المخدّرات والكحول ولعب القمار.
والأسر لا يتوقّف عند مساحة السّجن وراء قضبان الحديد، بل يمتدّ الى مَن هم أسرى لأميالهم، ولآرائهم ولأشخاص وإيديولوجيّات؛ ومَن هم أسرى قناعاتهم الخاطئة ولا يُقرّون بها، ومَن هم أسرى للتّيّارات السّياسيّة المغرضة، وغير قادرين على التّمييز بين الحقّ والباطل، وبين العدل والظّلم.
5. في غمرة التّحدّيات القاسية الّتي يواجهها لبنان، نشكر اللّه على نجاح القمّة الرّوحيّة الإسلاميّة- المسيحيّة الّتي انعقدت في بكركي قبيل توجّهنا إلى روما. وقد أكّدت كسابقاتها على جملة ثوابت وحقائق كانت ولا تزال في أساس الكيان اللّبنانيّ بدءًا من وحدة اللّبنانيّين الرّاسخة في كنف دولتهم وفي كنف الشّرعيّة الدّوليّة وصولاً إلى تضامنهم الإنسانيّ والأخويّ الّذي يتجاوز كلّ اختلاف سياسيّ. وكان إجماع من القادة الرّوحيّين على أنّ مدخل الحلول لأزماتنا هو انتخاب رئيس للجمهوريّة يكون حاميًا للدّستور وضامنًا لوحدة اللّبنانيّين. وفي هذا السياق سوف نتابع مع الإخوة رؤساء الطّوائف كافّة آليّات تحقيق مضمون بيان هذه القمّة الّتي شكّلت علامة مضيئة في عتمة هذه الأيّام وقد لاقت ارتياحًا داخليًّا وخارجيًّا خصوصًا لجهة تجسيد صورة لبنان الحقيقيّة بتعدّديّة طوائفه.
6. إنّنا نحيّي مؤتمر باريس الّذي انعقد في الرّابع والعشرين من هذا الشّهر الّذي وضع خريطة طريق كحلّ ديبلوماسيّ للحرب الدّائرة بين إسرائيل وحزب اللّه، وقوامها ثلاث نقاط:
أوّلًا: وقف إطلاق النّار فورًا بين حزب اللّه وإسرائيل.
ثانيًا: تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701(2006)، وبخاصّة انتشار الجيش اللّبنانيّ في جنوبي اللّيطانيّ.
ثالثًا: إنتخاب رئيس الجمهوريّة بأسرع وقت.
إنّنا نشكر الدّول الّتي تمثّلت في هذا المؤتمر، على جمع مليار دولار أميركيّ للبنان، مفصّل توزيعها وبشكل تصل إلى الموجّهة إليهم.
6. من المؤسف أنّ الحرب بين حزب اللّه وإسرائيل خرجت عن نظامها الدّوليّ إذ راحت تحصد أطفالًا ونساءً ومدنيّين عزل ومؤسّسات إنسانيّة. وقد فاق عدد القتلى 2500 شخصًا من جهة لبنان، بالإضافة إلى تدمير كامل للمنازل والمؤسّسات، وعشرات آلاف الجرحى، وتهجير ما يفوق 1.300.000 مواطن.
وإنّنا نصلّي ونعزّي أهالي الضّحايا، ولاسيّما ضحايا الجيش اللّبنانيّ، وضحايا الإعلام الّذين سقطوا في حاصبيا وهم نيام ليل أمس الأوّل: غسّان نجّار ومحمّد رضى من تلفزيون الميادين، ووسام قاسم من تلفزيون المنار.
7. فلنصلِّ، أيّها الأخوة والأخوات الأحبّاء، إلى اللّه بشفاعة القدّيسين الشّهداء الثّلاثة الأخوة المسابكيّين العلمانيّين، أن يجعلنا شهودًا للمحبّة وفاعلي سلام في لبنان وسوريا والأراضي المقدّسة، له المجد والشّكر الآن وإلى الأبد، آمين.”