حجّت أبرشيّة البترون المارونيّة، في عيد الاستقلال، إلى ضريح القدّيسة رفقا في دير مار يوسف- جربتا، جيث رفعت الصّلاة من أجل لبنان، في قدّاس إلهيّ ترأّسه راعي الأبرشيّة المطران منير خيرالله وكهنتها.
وللمناسبة، ألقى خيرالله عظة بعنوان: “وهاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم” (متّى 28/20)، قال فيها:
“في 22 تشرين الثّاني 1985، تداعينا للمرّة الأولى في أبرشيّة البترون، بعد إعلان تطويب الرّاهبة رفقا ولمناسبة عيد الاستقلال، إلى مسيرة حجّ وصلاة إلى ضريح الطّوباويّة رفقا في دير مار يوسف جربتا.
تسعة وثلاثون سنة مضت ونحن نلتقي في مسيرات حجّ وصلاة، وكان وطننا لبنان، ولا يزال، يعاني من حروب الآخرين على أرضه ويدفع ثمنها اللّبنانيّون. فمات من مات، واستشهد من استشهد، وهُجِّر من هُجِّر، وهاجر من هاجر. وبقينا نحن نصارع من أجل الحياة، حياةٍ حرّة وكريمة، في ظلّ دولة تحترم دستورها وقوانينها وتؤمّن مصالح مواطنيها وتستحقّ الاستقلال النّاجز.
للسّنة التّاسعة والثّلاثين على التّوالي نحجّ إلى ضريح القدّيسة رفقا لنحتفل معًا بعيدي القداسة والاستقلال. وبين الاثنين قرابة روحيّة ووطنيّة، إذ هما ثمرة تضحيات شعب وجهود أفراد.
نحتفل أوّلًا بعيد القداسة في هذا الدّير الّذي شيّدته القدّيسة رفقا مع أخواتها سنة 1897 في وادي القداسة والقدّيسين، هنا في جربتا. وقرّرت أن تمشي مسيرة القداسة الّتي تعود بنا إلى الجذور، إلى روحانيّة أبينا مار مارون الّذي استنبط روحانيّةً نسكيّة في كنيسة أنطاكية، تعاش على قمم الجبال أو في قعر الوديان، في علاقة مميّزة مع الله في الصّلاة والتّقشّف والتّجرّد عن ملذّات العالم، وفي العمل في الأرض للعيش منها بحرّيّة وكرامة.
وأتى تلاميذ مارون يعيشون هذه الرّوحانيّة على قمم جبال لبنان أو في وديانه وحوّلوها إلى مراكز قداسة ومزارات لتمجيد الله. وأسّسوا كنيسة مع البطريرك يوحنّا مارون وأكملوا فيها مسيرة الرّوحانيّة النّسكيّة في القداسة. واجهوا عبر الأجيال محنًا كثيرة في الاضطهادات والحروب والنّزوحات، ولكنّهم بقوا ثابتين في إيمانهم بالله، ومتمسّكين بالقيم المسيحيّة والإنسانيّة الّتي تربّوا عليها، ومحافظين على أرضهم الّتي اعتبروها عطيّة من الله ووقفًا له. وكان منهم النّسّاك والشّهداء والقدّيسون، أمثال نعمة الله وشربل ورفقا.
أمّا العيد الثّاني، عيد الاستقلال، استقلال لبنان الوطن والكيان، فهو أيضًا، كما مسيرة القداسة، احتاج إلى جهود وتضحيات كبيرة من شعبنا قدّمها خلال التّاريخ منذ بداية وجوده وحضوره على هذه الأرض المقدّسة. والقدّيسة رفقا، كما القدّيسون نعمة الله وشربل والأخوة المسابكيّون، كانوا شهودًا لمرحلة من مراحل الاضطهادات الّتي تعرّض لها شعبنا في مسيرة استقلال الكيان اللّبنانيّ بين 1840 و1860، يوم كان الموارنة والمسيحيّون يُذبحون في عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة. والبطريرك المكرّم الياس الحويّك، ابن منطقتنا، وحّد اللّبنانيّين، مسيحيّين ومسلمين، وراح يطالب باسمهم الحلفاء بعد الحرب العالميّة الأولى بإعلان دولة لبنان الكبير؛ الكبير لا في جغرافيّته وأرضه، بل في دعوته ورسالته، لأنّه وطن رسالة لكلّ بلدان العالم وشعوبه. وطن رسالة في المحبّة والمصالحة والسّلام والانفتاح والعيش الواحد في احترام التّعدّديّة، تعدّديّة الانتماءات الدّينيّة والطّائفيّة والحزبيّة والثّقافيّة والحضاريّة، على أن تبقى كلّها تحت سقف الانتماء الواحد للوطن والدّولة. ونال ما طلبه، وأعلنت دولة لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920.
وتابع البطريرك أنطون عريضه النّضال حتّى نال لبنان استقلاله في 22 تشرين الثّاني 1943 على إسم الجمهوريّة اللّبنانيّة.
لكن هذا الاستقلال لم يُنجز فعليًّا لأنّ اللّبنانيّين لم يثقوا بدولتهم ولم يضحّوا بمصالحهم الخاصّة في سبيل المصلحة العامّة. فبقيت عيونهم شاخصة إلى دول خارجيّة، وقلوبهم معلّقة بزعماء ورؤساء غير لبنانيّين.
وإندلعت الحرب فيما بينهم ومع الآخرين منذ ما يقارب الخمسين سنة وما زالت مستعرة. وذلك لأنّهم بَدَوا قاصرين فاستُعبدوا، ومنقسمين فحُكموا بالقوّة، ومشرذمين فاحتُلّت أرضهم.
نقف اليوم بعد كلّ هذا المسار المؤلم، على ضريح القدّيسة رفقا، أمام ذواتنا وأمام الله وأمام بعضنا البعض وأمام مجتمعنا، وقفة توبة صادقة لطلب الغفران على كلّ ما اقترفنا من أخطاء وخطايا. لنعمل بعد ذلك، وبكلّ جرأة، على قراءة نقديّة لتاريخنا وللأحداث الّتي عشناها بهدف تنقية الذّاكرة وإقامة حوار صادق وصريح في ما بيننا للوصول إلى مصالحة باتت ضروريّة، بل ملحّة اليوم.
نحن أمام مسؤوليّة تاريخيّة تحتّم علينا العمل متعاضدين موحَّدين على إعادة بناء لبنان، الوطن الرّسالة كما أطلق عليه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، رسالة حوار وسلام كما يردّد قداسة البابا فرنسيس. وبناء مستقبل واعد لأولادنا وأجيالنا الطّالعة لينعموا باستقلال مستحَقّ وسيادة كاملة.
نحن قادرون على ذلك بقوّة إيماننا بالله ورجائنا بالرّبّ يسوع المسيح الّذي تنازل من ألوهيّته ليصير إنسانًا مثلنا ويتبنّى إنسانيّتنا الضّعيفة ويقوّيها ويحملها معه حتّى الصّليب فالموت والقيامة.
نطلب من الله، بشفاعة القدّيسة رفقا، الّتي حملت الصّليب مع يسوع وصارت رسولة الألم وشفيعة المتألّمين، أن يمنحنا القوّة على حمل الصّليب معه والانتصار على الشّرّ والخطيئة، كي نكون رسل محبّة ومصالحة وسلام في لبنان الرّسالة وفي العالم. والمسيح باقٍ معنا إلى نهاية العالم.”