في أحد النّسبة، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت.
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظته فقال: “أحبّائي، في هذا الأحد المسمّى أحد النّسبة، الّذي يسبق عيد ميلاد الرّبّ يسوع، نقرأ المقطع الإنجيليّ المتعلّق بنسب يسوع بحسب الجسد. يشدّد الإنجيليّ متّى في ذكره لنسب المسيح بالجسد على أنّ الرّبّ يسوع هو “المسّيّا المنتظر”، المنحدر من سلالة داود الملوكيّة. لهذا، يفتتح سلسلة الأنساب بقوله: “كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم”. خاطب متّى اليهود كي يؤمنوا بالمسيح الّذي قدّمه لهم بحسب كتبهم المقدّسة. من جهة أخرى، فإنّ ذكر نسب يسوع يؤكّد على حقيقة التّجسّد الإلهيّ، أيّ إنّ المسيح اتّخذ طبيعتنا البشريّة بكمالها، ما عدا الخطيئة. لم يكن مجيء المسيح وتجسّده مصادفةً أو حدثًا تاريخيًّا بشريًّا، أو قرارًا فجائيًّا من الله، بل كان تدبيرًا إلهيًّا قصد الله تحقيقه “لمّا حان ملء الزّمان” (غل 4: 4).
بعد أيّام قليلة سنحتفل بعيد الميلاد، فنقرأ أنّ ملاك الرّبّ بشّر الرّعاة قائلًا: “لا تخافوا، فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشّعب، أنّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرّبّ” (لو 2: 10-11). نحن نعيّد للفرح الّذي بشّر به الملاك الرّعاة، وعبرهم الخليقة كلّها. لذلك نرتّل عشيّة العيد: “لتفرح اليوم السّماء والأرض فرحًا نبويًّا، ولنعيّد أيّها الملائكة والبشر تعييدًا روحيًّا، لأنّ الإله قد ظهر بالجسد للجالسين في الظّلمة والظّلال، مولودًا من امرأة، فتقبّلته مغارة ومذود، رعاة بالعجب يذيعون، ومجوس من المشارق في بيت لحم للهدايا يقرّبون، وأمّا نحن فإنّنا بشفاه غير مستحقّة، نقدّم له التّسبيح الملائكيّ هاتفين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السّلام، لأنّ رجاء الأمم قد جاء فخلّصنا من عبوديّة العدوّ”.
اليوم، في ظلّ الظّروف الصّعبة والحروب المحدقة بنا، قد يتساءل المرء: ما الذي يشعرني ببهجة العيد؟ يكمن فرح الميلاد بالنّسبة للبعض في الحصول على عطلة من العمل للسّفر وقضاء وقت مع العائلة والأصدقاء. الأطفال ينتظرون العطلة المدرسيّة والهدايا. البعض يعيش أجواءً مليئةً بالسّعادة أثناء تناول الوجبات الفخمة وتبادل الهدايا. البعض الآخر قد تقتصر احتفالاته على اجتماع حول المائدة بسبب ثقل الأوضاع. المؤكّد أنّ بعض المؤمنين سيشاركون في قدّاس العيد، وفي المائدة الرّوحيّة، وفي الاحتفال مع الأقارب والأصدقاء. قد تكون كلّ هذه الأمور حسنةً، لكن هل هذا هو مصدر الفرح العظيم الّذي أعلنه الملاك للرّعاة؟
الفرح العظيم هو ميلاد الرّبّ وتجسّده بقصد خلاصنا نحن البشر. نذكر مثلين قد يساعداننا على فهم طبيعة هذا الفرح. لنتخيّل فرح شخص بقي أسيرًا مدّةً طويلةً، وعانى الأمرّين على أيدي آسريه، وفجأةً يأتي من يهزمهم ويخضعهم ويمنحه حرّيّته. هذا فرحنا بميلاد الرّبّ، نحن الّذين كنّا عبيدًا للخطيئة، أي تحت سلطة الشّيطان، فتحرّرنا بمجيء المخلّص. كذلك قد نسمع عن محكوم بالإعدام ينجو في اللّحظة الأخيرة بالرّحمة. هذا تمامًا ما فعله المسيح بتجسّده، إذ حرّرنا من الموت الأبديّ وطهّرنا من خطايانا. فكما يشفى المريض على يد الطّبيب، هكذا قد شفينا من الخطيئة بمجيء المسيح. قال الملاك ليوسف: “ستلد (مريم) ابنًا وتدعو اسمه يسوع، لأنّه يخلّص شعبه من خطاياهم” (مت 1: 21). هذا فرحنا الحقيقيّ، أنّنا نجونا من الموت، وتحرّرنا من طغيان الشّيطان ومن خطايانا.
لا يكتمل هذا الفرح إن لم يبذل الإنسان جهدًا ليعيشه في يوميّاته. لذا تجدر بنا الإستجابة لعرض الحرّيّة والفداء الّذي قدّمه المسيح. علينا أن نقبله بكلّ كياننا كمخلّص شخصيّ لنا، وأن نظهر الرّغبة في الاقتراب منه وقبول كلمته واتّباع خطواته، وأن نطلب ضياء نوره طوال حياتنا. لا يخلّصنا المسيح من خطايانا إذا تمسّكنا بها بلا ندم وتوبة واعتراف. كيف نتحرّر من عبوديّة الشّيطان إذا واصلنا التّعلّق بالأرضيّات وطلب المكاسب المادّيّة؟ هذه تماثل “عبادة الأوثان” (كو ٣: ٥) الّتي يدينها الله.
يستدعي عيد الميلاد تغيير القلب والعقل، واقتلاع كلّ هوًى وكلّ رغبة أنانيّة تبعدنا عن الله. لقد انكشف سرّ الله المتجسّد داخل مغارة بيت لحم، في المحبّة والحرّيّة والتّجدّد. لقد أعلن لنا جليًّا أنّ الله معنا على لسان النّبيّ القائل: “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمّانوئيل الّذي تفسيره الله معنا” (مت 1: 23).
دعوتنا اليوم أن نسعى إلى القداسة بلا يأس، إذ إنّ المسيح أتى متجسّدًا من نسل بشريّ أعلنه لنا إنجيل اليوم، وهذا النّسل يحتوي خطأةً كثيرين تقدّسوا وأصبحوا مثالًا لنا. ليكن العيد الآتي مناسبةً للتّحرّر الإراديّ من الخطايا والاقتراب من المسيح.
دعوتنا في هذه الأيّام المباركة إلى عيش معنى الميلاد في العمق، إلى التّخلّي عن الارتباطات الأرضيّة والمصالح الوقتيّة من أجل نيل المكافآت السّماويّة. إنّ الانقطاع عن شركة القداسة مع الخالق، والانفصال عن النّعمة الإلهيّة المحيية، هما سبب وجود الشّرّ في العالم. بعد معصية آدم قال له الله: “ملعونة الأرض بسببك” (تك 3: 17)، ومنذئذ دخلت البشريّة في “ظلمة الموت وظلاله”. هذا هو واقع التّاريخ الإنسانيّ، حيث ساد منطق القوّة وبقاء الأقوى، وبات الأقوياء يتحكّمون بمصائر البشر، ظنًّا منهم أنّهم بالقوّة والبطش يستمّرون. لكنّ القوّة والظّلم والعناد والحقد والحروب وكلّ شرور العالم لم تخلّص الإنسان من عذاباته، ولم تمنع الموت عنه، ولا الانكسار والخيبة. وحده النّور الحقيقيّ يخلّص الإنسان من عبوديّة الشّرّ والخطيئة، والانحدار إلى أدنى دركات الضّياع والفساد والخطيئة. قال إشعياء النّبيّ: “الشّعب السّالك في الظّلمة أبصر نورًا عظيمًا. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (9: 2). بميلاد المخلّص شمس العدل قد أشرقت، وطريق الخلاص قد فتحت. فلنتخلّ عن إنساننا العتيق المجبول بالخطايا، ونتبع النّور الّذي لا يزول. أمّا في لبنان فليتخلّ الجميع عن أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم، ويعملوا بصدق من أجل خلاص البلد. لا بدّ أن يتواضع الجميع ويعملوا معًا من أجل الخروج من النّفق المظلم حيث الفوضى والتّقهقر، إلى سلطة موثوقة، قويّة، عادلة، تحافظ على سيادة لبنان وحرّيّته واستقلاله، وعلى مصلحة اللّبنانيّين وأمنهم واستقرارهم. يقول بولس الرّسول: “لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح” (في 1: 21) ونحن نقول: الموت عن الأنانيّة والمصلحة والاستقواء والتّفرّد ربح للوطن. آمين.”