على ضوء مثل الغنيّ الجاهل، حذّر متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده من خطر الطّمع بالمادّيّات والابتعاد عن الله، في عظة قدّاس الأحد من كاتدرائيّة مار جاورجيوس- وسط بيروت.
وفي تفاصيل العظة، قال عوده:
“أحبّائي، يحذّرنا الرّبّ، عبر مثل الغنيّ الجاهل الّذي تلي على مسامعنا اليوم، من خطر الطّمع بالمادّيّات والابتعاد عن الله الّذي تجسّد ليخلّص الإنسان من براثن الخطيئة ويمنحه الحياة الأبديّة.
نتعلّم من الرّسول بطرس أنّ ثمنًا باهظًا دفع من أجل خلاص نفوسنا، إذ يقول: “عالمين أنّكم افتديتم، لا بأشياء تفنى، بفضّة أو ذهب… بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بط1: 18-19). لقد ارتضى ربّنا أن يموت على الصّليب ليخلّص البشريّة بأسرها. في المقابل، نقرأ في مثل اليوم كيف خسر الغنيّ نفسه، وهذا يمكن أن يحصل معنا فيخسر كلّ منّا نفسه إلى الأبد بسبب سلوكه غير المرضي لله.
ثلاثة أسباب أدّت بالغنيّ إلى خسارة نفسه. السّبب الأوّل أنّ هذا الإنسان ضمر خططًا أنانيّةً إذ انشغل طوال حياته بالسّعي وراء رفاهيّة الحياة الأرضيّة، ولم يسع وراء الله. “أخصبت أرضه” فاستغنى بما له وبنفسه عن الله. أراد بناء مخازن أكبر ليجمع فيها غلّاته وخيراته عوض اقتسامها مع من هم في الحاجة. لكنّ الله شاء له أمرًا مغايرًا. لقد خطّط فقط للحياة الوقتيّة الفانية بدلًا ممّا هو للحياة الأبديّة، ولم يكن الله محور حياته فيما يريدنا الرّبّ أن ننظر إلى الأمور من المنظار الصّحيح بقوله: “أنظروا وتحفّظوا من الطّمع، فإنّه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله” (لو 12: 15). علّمنا ألّا نهتمّ في حياتنا لما هو أرضيّ، بل أن نطلب أوّلًا ملكوت الله وبرّه (مت 6: 33). قد يخسر الإنسان نفسه إن بنى ذاته بعيدًا عن الله، إذ من منّا إذا اهتمّ يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدةً (لو 12: 25)؟
السّبب الثّاني الّذي جعل الغنيّ يخسر نفسه يكمن في نواياه الخاطئة. فقد كان ممتلئًا بالعجب والاعتماد على الذّات، وهاتان خطيئتان يخسر الإنسان نفسه بسببهما. ينبّه الرّسول بولس تلميذه تيموثاوس قائلًا: “أوص أغنياء الدّهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يتّكلوا على الغنى غير الثّابت، بل على الله الحيّ الّذي يؤتينا كلّ شيء بكثرة لنتّمتّع به” (1تي 6: 17-19). نقطة الفصل ليست في ما يملك الإنسان، غنيًّا كان أم فقيرًا، بل في موقع اهتمامه، إذ لا نقدر أن نعبد الله والمال (مت 6: 24). ليس مهمًّا كم حصّل الإنسان، بل كم أنفق على المحتاجين. يوصي الرّسول بولس العبرانيّين قائلًا: “لا تنسوا الإحسان والمؤاساة فإنّ الله يرتضي مثل هذه الذّبائح” (13: 16). الغنيّ لم يفكّر لحظةً في مشاركة المحتاجين ما فاض عنه من نعم الله، ولا ردّ مجدًا لله أو فكّر بأنّ الله سمح أن يغتني لكي يقتني بالمقابل فضيلة العطاء. لو كان هذا الغنيّ حكيمًا لأحسن استثمار أمواله في اقتناء الفضائل أيّ المحبّة والرّحمة والعطاء. إنّ الغنى عطيّة من الله علينا أن نحسن استعمالها.
أمّا السّبب الثّالث فهو أنّ الغنيّ وضع لنفسه أهدافًا وحسابات خاطئة. ظنّ أنّه يستطيع التّمتّع بغلّاته وخيراته الّتي جمعها، غير عالم أنّ ليلته كانت الأخيرة على الأرض. يقول الرّسول يعقوب: «هلمّ الآن أيّها القائلون: نذهب اليوم أو غدًا إلى هذه المدينة أو تلك، وهناك نصرف سنةً واحدةً ونتاجر ونربح. أنتم الّذين لا تعرفون أمر الغد! لأنّه ما هي حياتكم؟ إنّها بخار يظهر قليلًا ثمّ يضمحلّ” (يع 4: 13-17). هكذا، لا يدرك معظمنا، كالغنيّ الجاهل، أنّنا على بعد نفس واحد أو نبضة قلب واحدة، أو حادث واحد من الموت الجسديّ. فلا نكن مثله غير مستعدّين لتلك اللّحظة، بل فلنتصالح مع الله، الآن وليس غدًا.
يا أحبّة، كم من النّاس في أيّامنا يستمدّون معنى حياتهم وقيمة وجودهم من ثراء لا قيمة له في ذاته لأنّه زائل، ويدّخرونه لغد غير مضمون، قد يرحلون ويتركونه لأنّ حياتهم ليست في يدهم بل في يد من خلقهم. “يا جاهل، في هذه اللّيلة تطلب نفسك منك، فهذه الّتي أعددتها لمن تكون؟”. هكذا خاطب الله المهتمّ بثروته، الّذي نسي أنّ مانح الخيرات هو الله وحده. لقد سمّاه الله جاهلًا فيما هو في نظر البشر ناجح وذو دراية وتخطيط. إنّ مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر. فما ظنّه الغنيّ ملكًا هو في الحقيقة عطيّة من الله منحه إيّاها ليشتري بها نفسه، فماذا فعل؟ أمضى عمره أسير ماله فيما أعطاه الله حرّيّة الاختيار بين الاستعباد للمال أو اقتسامه مع إخوته بغية اقتناء ملكوت الله وبرّه. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “الخبز الّذي تخبّئه عندك هو ملك للجائع، واللّباس الموجود في خزانتك هو ملك للعريان… المال الّذي تقتنيه على الأرض هو للّذي بحاجة إليه. فأنت إذًا تظلم كلّ من تستطيع مساعدتهم”.
يشدّد الآباء القدّيسون على أهمّيّة اقتناء الفضائل وأوّلها التّواضع لأنّ التّكبّر النّاتج عن الغنى أو المركز أو النّفوذ وما شابه يأخذ صاحبه إلى الهلاك. فمن اغتنى أيّ استقوى بماله أو مركزه أو حزبه أو طائفته وأشاح بوجهه عن إخوته لن تكون آخرته أفضل من آخرة غنيّ إنجيل اليوم الّذي حصر تفكيره واهتمامه بنفسه وما تملك. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ “إنّ المجد الّذي يأتي عن طريق الغنى والسّلطة والعنف لا يلبث أن يضيع، أمّا المجد المرتكز على الأعمال الصّالحة فهو ثابت لا يتزعزع ولا يزول”.
كلّنا مائتون. يومًا ما سيتوقّف كلّ شيء فجأةً، وإذ نمثل أمام الدّيّان العادل يكون علينا أن نجيب عمّا فعلناه في حياتنا. هل سنكون مستعدّين لتقديم حساب عن طريقة عيشنا أو تربية عائلاتنا أو معاملة أترابنا وما فعلناه بمواهبنا وقدراتنا؟ أو نكتفي باعتزازنا بالنّفس الّذي يؤدّي إلى سقوطنا وهلاكنا؟ كيف سنجيب عمّا فعلناه بالوزنات الّتي منحنا إيّاها الله؟
علينا إذًا أن نستعدّ لتلك السّاعة الرّهيبة كي لا نخسر نفوسنا، بل لتكون ثمرةً نضرةً للحياة الأبديّة، آمين. ”