23 ديسمبر 2024
الأراضي المقدّسة

هذا ما يحدث إن لم ندع الله يكون الشّاهد الوحيد لأعمال حياتنا! 

في الأحد الثّاني والثّلاثين من الزّمن العاديّ ب، بحسب الطّقس اللّاتينيّ، تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل مرقس 12: 38- 44، والّذي يتمحور حول الرّؤية والنّظر. 

وفي تأمّله، قال بيتسابالا بحسب موقع البطريركيّة اللّاتينيّة القدس: “رأينا قبلَ أسبوعين أنَّ آخرَ معجزةٍ قامَ بها يسوعُ قبلَ دخولِهِ القدسَ وبدءِ آلامِهِ هي شفاءُ برطيماوسَ الأعمى (مرقس ١٠، ٤٦-٥٢). وذلكَ لأنَّ التّلميذَ يرى عملَ اللهِ الّذي يجري في التّاريخِ ويتعرَّف عليه من خلالِ أسلوبِهِ الفريدِ والمميَّز، وهو أسلوبٌ فصحيٌّ.   

نُفكِّرُ في تلميذي عِمَّاوَس: يرى أحدُهما مُسافرًا يسيرُ معهما، لكنَّه يتعرَّفُ عليه عندَ رؤيتهِ وهوَ يكسرُ الخبزَ (لوقا ٢٤، ٣١.٣٥)، لأنَّ هذا العملَ يتحدّثُ عن اللهِ، ويتحدّثُ عن أسلوبهِ في الحياةِ والمحبَّة. التّلميذُ هو من يتعلَّم أن يرى، أن ينظرَ إلى الحياةِ من خلالِ عدسةِ الفصح.   

إنَّ إنجيلَ اليوم (مرقس ١٢، ٣٨-٤٤) يتمحورُ حولَ موضوعِ الرّؤيةِ والنّظرِ.   

يسوعُ في الهيكلِ مع تلاميذِهِ.   

يرى في ذلكَ فرصةً لتقديمِ تعليمٍ لهم: يجبُ الحذرُ من فئةٍ معيّنةٍ من النّاسِ، هم الكتبة، الحكماء، ليسَ لأنَّهم يفعلونَ شيئًا سيئًا أو مرفوضًا بشكلٍ خاصّ. بل ببساطةٍ، لأنَّهم لا يرونَ، بل يحبُّونَ المظاهرَ وأن يراهم النّاسُ. (مرقس ١٢، ٤٠).   

لا يرونَ اللهَ، ولا يساعدونَ النّاسَ على رؤيتِهِ، بل كلُّ ما يفعلونهُ هو لأجلِ غايةٍ واحدةٍ، أن يراهم النّاسُ.   

ولهذا السّبب، يسعونَ جاهدينَ للظّهورِ والتّألُّق، إذ لديهم شغفٌ عميقٌ بأن يكونوا محطَّ الأنظار.   

بهذا، يحتلُّ الكتبةُ المساحةَ الّتي يجبُ أن تكونَ مساحةَ الله، المساحةَ الّتي فيها ننظرُ إليه: فيضعونَ أنفسَهم مكانَه. لم يلتقوا بعدُ بإلهٍ يراهم، لم يلتقوا بنظرةِ اللهِ الّتي ينظرُ بها إليهم بمحبّةٍ (مرقس ١٠، ٢١): النّظرةُ الّتي تُغذِّي الجوعَ العميقَ للحياةِ الّذي نحملُهُ في داخلِنا.   

إذا لم نلتقِ بهذه النّظرةِ، سنكتفي بأن يرانا النّاسُ. وإذا لم ندعْ اللهَ أن يكونَ الشّاهدَ الوحيدَ لأعمالِ حياتِنا، فسنبحثُ باستمرارٍ عن شهودٍ آخرين.   

ولكن، يسوعُ يرى شيئًا آخرَ أيضًا.   

يجلسُ أمامَ خزانةِ الهيكل، ويرى أرملةً تضعُ في الخزانةِ فلسين، ويتيقّنُ من أنَّ هذه المرأةَ قدَّمت أكثرَ من الجميعِ، أكثرَ من الّذين وضعوا في الخزانةِ الكثيرَ من النّقودِ (مرقس ١٢، ٤٢-٤٤).   

يرى يسوعُ أنَّ هذه المرأةَ تُقدِّم كلَّ شيءٍ (مرقس ١٢، ٤٤). لا يقيسُ قيمةَ التّقدمةِ، بل قيمةَ القلبِ الّذي يُقدِّم.   

وهذه الأرملةُ تُقدِّم أثمنَ شيءٍ: لا تُقدِّم الفائضَ، بل الأفضلَ، ما هو أغلى ما تملكُ. تُقدِّمُ حياتَها بأكملِها.   

إذا كانَ الكتبةُ يشغلونَ المساحةَ، فالأرملةُ، على العكسِ، تفسحُ المجالَ.   

تفسحُ المجالَ بفتحِ قلبِها لله، دونَ أن تحتفظَ بشيءٍ لنفسِها: تتركُ اللهَ أن يكونَ كلَّ شيءٍ لها، وتُعبّرُ عن ذلكَ من خلالِ عملٍ يعكسُ ما يسكنُ قلبَها.   

لكن، كيف يمكنُ للأرملةِ أن تفعلَ ذلكَ؟ تفعلهُ لأنَّها حرَّةٌ من الحاجةِ إلى أن يراها النّاسُ.   

تعلمُ أنَّه لن ينظرَ إليها أحدٌ، ولن يراها أحدٌ: فتعيشُ أمامَ الله، وتجدُ طريقةً لتقولَ له إنَّهُ الشّاهدُ الوحيدُ على حياتِها، الحبُّ الوحيدُ في حياتِها.   

ولذلكَ، فهي أيضًا حرّةٌ من الخوفِ من أن تبقى بلا شيءٍ: هذه المرأةُ لديها كلُّ شيءٍ، كلُّ ما يجعلُها تعيشُ، لقد وجدت الكنزَ، نظرةَ اللهِ الّتي تراها، الّتي تنظرُ إليها، الّتي تحبُّها.   

تعرفُ أنَّ اللهَ يُحبُّ الجميعَ، لكنَّهُ يولي اهتمامًا خاصًّا بالفقراءِ، والأيتامِ والأراملِ: هذا ما تعلَّمتُهُ من شعبِها. وهذا ما لم يفهمْهُ الكتبةُ بعدُ.   

لا تسعى إلى أن يراها النّاسُ، لأنَّها تؤمنُ بمن يراها. ويسوعُ، بالفعل، يراها، هو الشّاهدُ لحياتِها وقلبِها.”