في أحد بشارة مريم، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي.
وللمناسبة، كانت له عظة بعنوان: “في ملء الزّمن أرسل الله جبرائيل إلى عذراء النّاصرة المخطوبة ليوسف” (غلا 4: 4؛ لو 1: 26-27) قال فيها:
“1. في ملء الزّمن أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة (غلا 4: 4). بهذه الكلمة أراد بولس الرّسول أن يبيّن أنّ الله هو سيّد التّاريخ. فبعد البشارة لزكريّا بمولد يوحنّا، وقد أصبحت زوجته أليصابات في شهرها السّادس، أرسل الله جبرائيل الملاك يحمل البشارة لمريم عذراء النّاصرة، المخطوبة ليوسف من بيت داود الملك. إنّها بشرى الإنجيل، هذا الخبر المفرح للبشريّة جمعاء، وهي أنّ الله يريد كلّ إنسان يولد لإمرأة، ويحبّه ويخصّه بدور متناسب مع فرادته في تاريخ الخلاص، ويرافقه بعنايته في جميع مراحل حياته.
2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، ونحن نحتفل بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. وأوجّه تحيّة خاصّة لشقيقي نبيه ولعائلته، ونحن نقيم هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفس زوجته المرحومة إلهام الجميّل الرّاعي، بمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاتها. فنذكرها بصلاتنا في هذه الذّبيحة الّتي نقدّمها لراحة نفسها ولعزائنا وعزاء أسرتها.
3. إنّ بشارة مريم، بتحديد مكانها وزمانها، تبيّن أنّ الله يواكب تاريخ البشر، ويكشف أسراره الخلاصيّة في الوقت المناسب، ومع الأشخاص الّذين اختارهم لهذه الغاية. فلكلّ إنسان دور ما في تاريخ الخلاص، وفقًا لحالته وموقعه ومسؤوليّاته.
بهذه الحقيقة يظهر أمامنا لاهوت الزّمن الّذي تقدّمه لنا اللّيتورجيا، إذ تعتبره انفتاحًا دائمًا على تجليّات الله، وانتظارها في مسيرة الرّجاء. ولذا تدعونا الكنيسة لتقديس الزّمن ليلًا ونهارًا بالصّلاة.
وفوق ذلك تقسم اللّيتورجيا السّنة إلى أزمنة مرتبطة بوقائع تاريخ الخلاص، وتفسح في المجال أمام المؤمنين والمؤمنات لعيشها والامتلاء من نعمة الخلاص (دستور اللّيتورجيا، 102).
4. إنّنا نجد مريم حاضرة في ليتورجيا الأزمنة الطّقسيّة قرب ابنها يسوع، وهي أمته وشريكته في عمل الفداء وأمّ كنيسته. وتتّحد بشكل لا ينفصم بعمله الخلاصيّ. وفي شخصها ترى الكنيسة بإعجاب وتعظّم ثمرة الفداء الأسمى، وفيها تتأمّل بفرح.
مريم هي وسيطة وشريكة الفداء.
الوسيط الوحيد بين الله والنّاس هو الإنسان يسوع المسيح الّذي بذل ذاته فدىً عن الجميع (1طيم 2: 5-6). أمّا وساطة أمّه مريم فتكشف فاعليّة وساطة ابنها الإله والإنسان. وساطتها ليست من ذاتها، بل تنبع من فيض استحقاقات المسيح ابنها. بوساطتها تسهّل اتّحاد المؤمنين بالمسيح ولا تصنعه (الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 60).
أمّا مشاركتها في عمل الفداء فهي كما علّمتها الكنيسة أنّها: بحبلها بالمسيح وولادته وتغذيته، وتقديمه للآب في الهيكل، وبآلامها مع ابنها المائت على الصّليب، وشاركت بشكلٍ خاصّ في عمل المخلّص، بالطّاعة والإيمان والرّجاء والمحبّة الحارّة من أجل أن تنال النّفوس الحياة الأبديّة. وبهذا أصبحت لنا أمًّا بالنّعمة (الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 61).
وساطة مريم ومشاركتها في عمل الفداء والخلاص مستمرّان بتشفّعها بأبنائها وبناتها المسافرين في بحر هذا العالم لكي ينالوا الخلاص الأبديّ. ولهذا تصلّي إليها الكنيسة وتدعوها أمّ المعونة الدّائمة، وسيّدة المعونات والمحامية والوسيطة. فهي وحدها تقودنا إلى الاتّحاد بابنها الّذي هو الوسيط الوحيد والمخلّص الأوحد (الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 62).
5. في نهاية الحوار بين الملاك ومريم، أعطت مريم جوابها على تصميم الله عليها، قبل انتقالها إلى بيت رجلها يوسف، جواب رضى وحرّيّة، جواب إيمان ومحبّة: “أنا خادمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك” (لو 1: 38). يمتاز إيمان مريم بثلاثة:
أ- إنّه فعل تسليم وجهوزيّة ذات. مريم تبذل ذاتها وكلّ كيانها بفرح وثقة للإبن الإلهيّ الّذي يأخذ طبيعة بشريّة منها، وهي عذراء، بقوّة الرّوح القدس.
ب- إنّه فعل طاعة: قبلت به الدّخول في تدبير الله الخلاصيّ للبشريّة. إنّها تقبل الدّور المصيريّ والمسؤوليّة الملزمة بأن تكون أمًّا للمسيح. لم يكن غريبًا أن تلد عاقر، لكن الغريب أن تلد عذراء.
ج- إنّه فعل ثقة. لقد اقتنعت مريم ووضعت ذاتها بتصرّف الرّبّ بكلّ صدق وعمق. إنّها تهب ذاتها للرّبّ بكلّ ثقة، وبكلّ يقين، وتهبها إلى صدق مواعيد الله.
هذا الإيمان المميّز جعل إليصابات تهتف: “طوبى للّتي آمنت بأنّ ما قيل لها من قبل الرّبّ سيتمّ” (لو 1: 45).
6. في ضوء البشارة بميلاد ابن الله إنسانًا، وهو حدث قسّم التّاريخ إلى إثنين: نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد، نتطلّع إلى واقعنا المؤلم: حرب بالأسلحة القتّالة، قتل مدنيّين وأطفال ونساء عزّل، دمار منازل ومؤسّسات لا يقدّر ثمنها، مليون ونصف المليون من النّازحين من دون مأوى. وفوق ذلك دولة من دون رئيس منذ سنتين كاملتين، بشكل مقصود ومتعمّد، ومجلس نيابيّ فاقد هيئته التّشريعيّة، لكونه أصبح هيئة ناخبة لا تنتخب منذ سنتين، ومجلس وزراء لتصريف الأعمال منذ أكثر من سنتين، وفاقد كامل الصّلاحيّات ومنقسم على ذاته.
لماذا كلّ هذا الخراب على مستوى الشّعب والمؤسّسات والدّولة؟ من يفاوض وقف إطلاق النّار، وباسم من، ولصالح من؟ وهي أولى صلاحيّات رئيس الجمهوريّة المغيّب قصدًا. ما لم ينتخب المجلس النّيابيّ رئيسًا للجمهوريّة، لن يتمتّع مجلس النّوّاب والحكومة بصلاحيّاتهما، ويبقى كلّ عملهما منقوصًا وغير ميثاقيّ.
7. البشارة لمريم بشرى سارّة لجميع النّاس والشّعوب، ولا يمكن عيش تاريخ البشر، من دون تاريخ الخلاص. فالله هو سيّد التّاريخ وحده. وهو الّذي يلهم السّلام بين الشّعوب على تنوّعهم، ويلهم روح التّضامن والمحبّة تجاه النّازحين، ويدعو إلى إذكاء روح الوحدة الوطنيّة بين أبناء الوطن الواحد.
فلنصلّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل أن نعيش جميعنا فرح البشارة لمريم، لأنّها بشرى خير ونعم لنا وللبشريّة جمعاء، بشرى ميلاد مخلّص العالم وفادي الإنسان، يسوع المسيح المولود من الآب منذ الأزل بطبيعته الإلهيّة، ومن مريم العذراء في الزّمن بطبيعته البشريّة، بقوّة الرّوح القدس. للثّالوث القدّوس كلّ مجد وشكر وتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين!”.