23 ديسمبر 2024
لبنان

عوده: نحن بحاجة إلى يقظة وطنيّة لنخلّص لبنان من الكارثة 

هذا ما أكّد عليه متروبوليت بيروت الياس عوده من أجل إنقاذ لبنان، وذلك خلال عظته في قدّاس الأحد في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- وسط بيروت. 

وفي تفاصيل العظة، قال عوده: “أحبّائي، سمعنا في المقطع الإنجيليّ أنّ إنسانًا دنا إلى يسوع مجرّبًا، قائلًا له: “أيّها المعلّم الصّالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟”. 

سؤال هذا الإنسان مهمّ، لأنّه ينتظر جوابًا بهدف الخلاص، لكنّ المشكلة كانت في سبب طرحه. يقول النّصّ إنّه قصد الرّبّ “مجرّبًا له”، منتظرًا منه أن يقول شيئًا مخالفًا لتعاليم اليهود وللنّاموس ليشتكي عليه بشهادة السّامعين. لكنّ “العارف مكنونات القلوب” عرف أفكار الشّابّ وأجابه: “لماذا تدعوني صالحًا وما صالح إلّا الله وحده؟”. 

عند اليهود، صفة “صالح” لا تطلق إلّا على الله، لذلك سأل الرّبّ الشّابّ عن سبب دعوته صالحًا، كأنّه يقول له: إمّا أنّك تعترف بأنّي الله، أو إنّك لا تعرف ناموسك.   

كان هدف الشّابّ أن يسمع من المسيح إلغاءً للوصايا، لكنّ الرّبّ ثبّتها، وذكّره بها معدّدًا القسم الثّاني منها.  

كان اليهود يعتبرون أنّ اللّوح الأوّل من لوحيّ العهد كان يحوي الوصايا الّتي تتحدّث عن علاقة الإنسان بالله، أمّا الثّاني فيحمل الوصايا الّتي تحدّد علاقة الإنسان بالآخر. لافت أنّ الرّبّ ذكر الوصايا الموجودة في اللّوح الثّاني: “لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، أكرم أباك وأمّك”. 

جاء جواب الرّبّ بأنّ ميراث الحياة الأبديّة يكون عبر تطبيق الوصايا حول علاقة الإنسان بالآخر. طبعًا، لا يقصد الرّبّ أنّ علاقتنا بالله ليست مهمّةً، إنّما علاقتنا بالآخر تحدّد علاقتنا بالله. هذا ما يؤكّد عليه يوحنّا في رسالته الأولى حيث نقرأ: “إن قال أحد إنّي أحبّ الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأنّ من لا يحبّ أخاه الّذي أبصره كيف يقدر أن يحبّ الله الّذي لم يبصره؟ ولنا هذه الوصيّة منه أنّ من يحبّ الله يحبّ أخاه أيضًا” (4: 20-21).  

يأتي جواب الشّابّ سريعًا: “هذه كلّها حفظتها منذ حداثتي”، لكنّ الرّبّ يعقّب: “يعوزك أيضًا شيء”، وكأنّه يقول له إنّ حفظ الوصايا منذ الحداثة لا يعني العمل بها، لذلك ينقص تطبيقها والعيش بموجبها. لقد أتى الشّابّ طالبًا سبيل الحياة الأبديّة، فكان الجواب أنّ الحياة الأبديّة تبدأ بمحبّة القريب.  

لم يكتف الرّبّ بجواب نظريّ، بل أعطى الشّابّ حلًّا عمليًّا طالبًا منه أن يبيع كلّ ما يملك ويوزّعه على المساكين ليكون له كنز في السّماء، ثمّ “تعال اتبعني”، موضحًا له كيف يكنز في السّماء ويربح الحياة الأبديّة.   

جواب الرّبّ لم يأت كما أمل الشّابّ الّذي “حزن لأنّه كان غنيًّا جدًّا”.  

المسيحيّة لا تجرّم الغنى الّذي هو عطيّة من الله. نجد في الكتاب المقدّس عدّة شخصيّات غنيّة بارّة كإبراهيم وأيّوب ويوسف الرّامي وغيرهم. المشكلة لا تكمن في الثّروة بل في محبّة المال كما يقول بولس الرّسول: “محبّة المال أصل لكلّ الشّرور، الّذي إذا ابتغاه قوم ضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة” (1تي 6: 10). في مجتمعنا، الممتلكات تحدّد علاقتنا بالآخرين. مثلًا، عندما يتقدّم شابّ طالبًا الزّواج، لا يسأله الأهل عن علاقته بالرّبّ، بل عمّا يملك، وعن عمله ووضعه الاجتماعيّ. كذلك من يملك ثروةً يستحقّ الاحترام في أعين معظم النّاس أكثر من المعدم. لكنّ الغنى ليس دائمًا مصدرًا للفرح والسّعادة إذ قد يشكّل سببًا للخوف والقلق. فبعض الأغنياء يصرفون العمر في تجميع الثّروة والقلق من إمكانيّة فقدها فلا تكون مصدرًا لسعادتهم أو سعادة غيرهم.  

يشدّد آباء الكنيسة على أنّ كثرة الأموال تنسي الإنسان تدخّل الله في حياته، إذ يظنّ أنّها تستطيع تحقيق كلّ حاجاته. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “لم يخبرنا أن نبيع ما لنا لأنّها أشياء شرّيرة بطبعها، وإلّا ما كانت من صنع الله. لم يأمرنا أن نلقيها عنّا كأمور رديئة بل أن نوزّعها. لا يدان أحد لأنّه يملك شيئًا، إنّما لأنّه يفسد ما يملكه. لهذا، فإنّنا بحسب وصيّة الله نلقي عنّا ما لنا لغفران خطايانا والتّمتّع بالملكوت”. أمّا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ فيقول: “حتّى إن كنت غنيًّا، فالطّبيب قادر أن يشفيك. إنّه لن ينزع الغنى، إنّما ينزع العبوديّة للغنى ومحبّة الطّمع في الرّبح”. غنى الشّابّ كان مصدرًا لحزنه لأنّه كان عائقًا دون وصوله إلى ما يصبو إليه: الحياة الأبديّة.  

قد يظنّ من يقرأ إنجيل اليوم أنّ كلام الرّبّ موجّه للأثرياء فقط وهذا ليس صحيحًا، لأنّ كلّ إنسان لديه ما يتعلّق به أو يستغني به. فمن طلب ملكوت الله عليه ألّا يدع شيئًا يتسلّط عليه بل أن يجعل المسيح وحده مبتغاه. لذا نحن مدعوّون في فترة صوم الميلاد، كما في سائر أيّام حياتنا، إلى التّحرّر من عبوديّة المال وسلطته، وجعل الله غنانا علّنا نرث الحياة الأبديّة ونؤهّل لأن نقدّم أنفسنا هدايا ثمينةً للطّفل الإلهيّ المتجسّد من أجل خلاصنا.  

يا أحبّة، مرّت منذ يومين ذكرى الاستقلال حزينةً، فارغةً من معناها، لأنّ معظم اللّبنانيّين يشعرون بأنّ وطنهم يضيع واستقلالهم يتقهقر. لبنان مكبّل، ضائع، بسبب النّزاعات والاختلافات والمصالح والتّدخّلات وعدم تطبيق الدّستور وترك سدّة الرّئاسة خاليةً من رئيس هو بمثابة البوصلة والرّبّان.  

قال الرّبّ: “مرتا مرتا أنت تهتمّين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكنّ الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النّصيب الصّالح الّذي لن ينزع منها” (لو 10: 41). النّصيب الصّالح هو ما يجب طلبه. لذا على اللّبنانيّين ألّا يصرفوا أنظارهم عن الأمر الوحيد الّذي يحميهم وهو وجود دولة قويّة عادلة، ديمقراطيّة، دولة الدّستور والقوانين، دولة العدالة والمساواة بين المواطنين، واحترام الحقوق والواجبات. دولة يتولّى جيشها القيام بواجباته دون أن يشكّك به طرف أو ينتقده آخر. ولكي تتحقّق هذه الدّولة نحن بحاجة إلى رجال دولة يضعون مصلحة البلد فوق كلّ المصالح. نحن بحاجة إلى يقظة وطنيّة لنخلّص لبنان من الكارثة. إنقاذه وحمايته تبدآن بانتخاب رئيس يحمل صوت لبنان إلى العالم، وينتزع المبادرة من كلّ دخيل، ويعمل مع حكومته على تصويب الأوضاع وقيادة المفاوضات ورسم خطّة الإنقاذ وبناء المؤسّسات وجمع اللّبنانيّين تحت كنف الدّولة الّتي وحدها تحمي أبناءها وتذود عنهم. لقد حان الوقت لوقف المقامرة بحياة اللّبنانيّين ومصير أبنائهم. حان وقت إنهاء المغامرة بهذا البلد من أجل أهداف لا تخصّه، وإيقاف آلة الموت والدّمار. حان وقت القرار الشّجاع يتّخذه الأمناء لهذا البلد ويعملون على استرجاع الدّور كي نستحقّ استقلالًا نحتفل به مرفوعي الرّأس، مرتاحي الضّمير. فلنتّكل على الله الّذي لا يخذل محبّيه، وعلى ذوي الضّمائر الحيّة والإرادة السّليمة، آمين”.