نشرت بطريركيّة السّريان الكاثوليك رسالة بطريركها الميلاديّة بعنوان “النّور يشرق في الظّلمات ولم تدركه الظّلمات”، وقد كتب فيها:
“1. مقدّمة
في مطلع رسالتنا الميلادي ة هذه، يسرّنا أن نتقدّم بالأدعية الأبويّة والتّهاني الحارّة، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح متأنّسًا في حشا مريم البتول، وحلول العام الجديد 2025، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلّاء آباء السّينودس المقدّس لكنيستنا السّريانيّة الكاثوليكيّة الأنطاكيّة، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشّمامسة والرّهبان والرّاهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرّبّ، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربيّ والأراضي المقدّسة والأردنّ ومصر وتركيا وأوروبا والأميركيّتين وأستراليا.
إلى الرّبّ يسوع، كلمة الله المتأنّس، نتضرّع كي يمنّ، بجاه ميلاده العجيب، بالأمن والسّلام على العالم بأسره، الّذي ينوء متخبّطًا تحت ثقل الحروب والنّزاعات والصّراعات والآلام والأمراض والأوبئة والكوارث. إلى نوره الإلهيّ الّذي شعّ في سماء بيت لحم نبتهل كي ينبعث هذا النّور في عتمة حياتنا، ويملك الفرح حيث الحزن، ويطغى الوئام حيث الخصام، وتسود المحبّة حيث البغض، وينعم النّاس في كلّ مكان بعام جديد ملؤه الخير والبركة، مع الصّحّة والعافية نفسًا وجسدًا وروحًا. وبرجاء متجدّد وراسخ، نجسّد نحن المؤمنين بنور ميلاد فادينا المشعّ، نيّاتنا الصّادقة بعيش المحبّة والتّآخي والتّضامن في عائلاتنا ورعايانا ومجتمعاتنا وأوطاننا.
2. نور الميلاد يضيء كلّ ظلمة
ميلاد يسوع هو علامة الرّجاء في عمق الخوف وعدم اليقين اللّذين يخيِّمان على القلوب في هذا الزّمن المظلم. “ففي ليل الأرض ظهر نورٌ من السّماء… هذا النّور هو نعمة الله الّتي هي “ينبوع الخلاص لجميع النّاس” (تي 2: 11)… وهذه النّعمة هي المحبّة الإلهيّة الّتي تليّن القلوب وتغيّر الحياة، تجدّد التّاريخ، تحرّر من الشّرّ، وتنشر السّلام والفرح. في هذه اللّيلة ظهرت محبّة الله لنا: يسوع (الله يخلّص). في يسوع، صار الله طفلًا كي نعانقه” (قداسة البابا فرنسيس، من عظة قدّاس ليلة عيد الميلاد 2019).
حين جاء يوسف ومريم إلى بيت لحم ليكتتبا بحسب مرسوم أوغسطس قيصر (را. لو2: 1-5)، لم يكن لهما مكان، فولدت مريم ابنها البكر، وأضجعته في مذود (را. لو2: 7). واليوم، على الرّغم من الحزن الّذي يلفّ القلوب وظلمة العالم الّتي تضيِّق على النّاس، يبقى يسوع لنا النّور الّذي يضيء كلّ ظلمة (را. يو1: 5)، ملك السّلام الّذي يهبنا الرّجاء وينير حياتنا بأسرها. الميلاد هو في الحقيقة إعلان دخول يسوع المسيح، ابن الله، إلى تاريخ البشريّة، ليمنح حياتنا معنى ويخلّصنا.
يتأمّل القدّيس مار يعقوب السّروجي بإشراقة نور ميلاد الرّبّ يسوع من مريم البتول: «ܢܚܶܬܬ ܐܰܝܟ ܡܶܛܪܳܐ ܘܓܶܙܬܳܐ ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܗܺܝ ܩܰܒܶܠܬܳܟ܆ ܕܢܰܚܬ ܒܰܛܠܺܝܬܳܐ ܐܰܝܟ ܙܰܠܺܝܩܳܐ ܒܰܙܓܽܘܓܺܝܬܳܐ. ܡܳܐ ܕܰܒܥܰܝܢܳܟ ܐܰܠܳܗܳܐ ܐܰܢ̱ܬ ܥܰܡ ܝܳܠܽܘܕܳܟ܆ ܘܡܳܐ ܕܶܐܫܟܰܚܢܳܟ ܒܰܪܢܳܫܳܐ ܐܰܢ̱ܬ ܥܰܡ ܝܳܠܶܕܬܳܟ». وترجمته: “نزلتَ مثل المطر فقبلَتْكَ الجزّة البتول، أشرقْتَ من الصبيّة مثل الشّعاع عبر الزّجاج. إذا طلبناكَ، فها أنتَ إلهٌ مع والدكَ، وإذا وجدناكَ، فها أنتَ ابن البشر مع والدتك” (القدّيس مار يعقوب السّروجي، من قصيدة عن أنّ الرّبّ يسوع دُعِيَ اسمه “عجبًا”).
3. المسيح: كلمة الله والنّور الأزليّ
في الكتاب المقدّس، كان النّور دائمًا رمزًا للقداسة والخير، للمعرفة والحكمة، للنّعمة والأمل. النّور هو طبيعة الله ذاتها، حيث “قال الله: ليكن نور، فكان نور” (تك1: 3). اختبر شعب العهد القديم حضور الله من خلال نوره: في العلّيقة المشتعلة، في عمود النّار الّذي قادهم ليلًا، وفي مجد خيمة الاجتماع والهيكل.
وفي العهد الجديد، يعلن القدّيس يوحنّا في مستهلّ إنجيله: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله… فيه كانت الحياةُ والحياةُ نورَ النّاس. والنّور يشرق في الظّلمات ولم تدركه الظّلمات… كان النّور الحقّ الّذي ينير كلَّ إنسانٍ آتيًا إلى العالم” (يو1: 1، 4-5، 9). يسوع هو كلمة الله الخالقة والنّور الّذي لا يُطفَأ، نورٌ يطهّر القلوب وينير العقول. هو الّذي يُعيد الإنسان إلى غايته الحقيقية، مانحًا إيّاه الحياة بحضوره الإلهيّ الّذي يبدّد كلّ ظلمة.
الميلاد هو اللّحظة الّتي تجسَّد فيها هذا النّور الإلهيّ، حيث دخلت الحياة الأزليّة إلى عالمنا المُظلِم، لتعيد للإنسان ارتباطه بمصدر الحياة الحقيقيّ. هذا النّور مُوجَّهٌ إلى كلّ إنسان، ويضيء الطّريق أمام كلّ مَن يقبله.
4. انتظار النّور: رجاءٌ لا ينتهي
الميلاد يدعونا إلى عيش الرّجاء الرّاسخ بوعد الرّبّ، نحن “الشّعب السّالك في الظّلمة” الّذي “أبصر نورًا عظيمًا” (را. إش9: 2)، على حدّ تعبير النّبيّ إشعيا. هذا النّور هو بوصلة الرّجاء مدى الحياة، فهو عينه الطّفل الّذي “وُلِدَ لنا” (إش9: 6)، المسيح الّذي أعلن زكريّا أنّه “يُضيء على الجالسين في الظّلمة وظلال الموت” (لو1: 79). ففي ملء الزّمن، أرسل الله ابنه في ظلمة اللّيل، وأعلن الملائكة للرّعاة ولادة مخلّص العالم: “لا تخافوا، فها أنا أبشّركم بفرح عظيم… وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلّصٌ هو المسيح الرّبّ” (لو2: 10-11). فمن عظمة محبَّته للبشر (را. يو3: 16)، أرسل الله ابنه يسوع المسيح مولودًا من عذراء ليخلّص العالم بأسره.
رغم الظّلام الّذي يحيط بنا في عالمنا اليوم، نجد في نور الميلاد مصدرًا لرجاءٍ لا يخيب. إنَّ النّور الّذي جاء إلى العالم ليحطّم قوّة الخطيئة والموت، يدفعنا حتّى نسير في طريق السّلام الّذي يُضيئه (را. لو1: 79).
يجد رجاؤنا سكناه في المسيح، هو المخلّص الموعود لجميع الأجيال، وحلوله بيننا إلهًا متأنّسًا دعوةٌ لنا كي نفتح قلوبنا لهذا النّور، ونسمح له أن يقود خطواتنا في سعينا نحو أنوار الحياة الأبديّة.
5. النّور المتألّق الّذي لا يُطفَأ
في عتمة الحروب والكراهيّة، يبدو أنّ الظّلام يطغى، وأنّ الشّرّ يغلب الخير، والشّرّير يغوي الكثيرين لابسًا ثياب الحملان، لكنَّ نور المسيح يستمرّ في التّألّق، إذ لا يمكن إطفاؤه. الميلاد يُذكّرنا بأنَّ الظّلام لا ينتصر أبدًا، وأنَّ يسوع جاء ليبدّد كلّ ظلمة في حياتنا. لقد أعلن على الملأ: “أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12). ففي عالمٍ تعمّه العتمة النّاتجة عن الحروب والظّلم، وفي زمن الخوف والقلق والشّكّ، يأتي الميلاد ليؤكّد لنا أنّ النّور الحقيقيّ لا يُطفَأ، بل يشعّ ليهدي الإنسان ذا الإرادة الصّالحة إلى طريق الخير، فيتحوّل العالم إلى الأفضل. يدعونا النّور الّذي أضاء مذودًا بسيطًا في بيت لحم كي نكون مناراتٍ تشعّ بالرّجاء وسط يأس العالم. النّور الّذي “يشرق في الظّلمات” (يو 1: 5) ليس مجرّد إشعاع خارجيّ، بل هو حضورٌ يحوّل كيان الإنسان، ويحثّه ليكون منارة رجاء وسلام في عالم يبدو وكأنّ الشّرّ والظّلم يتحكّمان بمصير شعوبه وأوطانه.
يتناول القدّيس مار أفرام السّريانيّ بإسهاب سرّ تجسُّد الرّبّ يسوع وميلاده مُشرِقًا بتألُّقٍ من العلى: «ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܗܰܘ ܕܶܐܬܳܐ ܠܘܳܬܰܢ ܒܝܰܕ ܒܽܘܟ̣ܪܶܗ܆ ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܗܰܘ ܫܰܠܝܳܐ ܕܡܰܠܶܠ ܒܝܰܕ ܡܶܠܬܶܗ܆ ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܗܰܘ ܪܳܡܳܐ ܕܶܐܬܬܰܚܬܺܝ ܒܕܶܢܚܶܗ. ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܪܽܘܚܳܢܳܐ ܕܶܐܨܛܒܺܝ ܕܝܰܠܕܶܗ ܢܗܶܐ ܦܰܓܪܳܐ ܘܒܶܗ ܢܶܬܓܫܶܫ ܚܰܝܠܶܗ܆ ܘܢܺܚܽܘܢ ܒܗܰܘ ܦܰܓܪܳܐ ܦܰܓܪ̈ܶܐ ܒܢ̈ܰܝ ܛܽܘܗܡܶܗ». وترجمته: “المجد لذاك الّذي وافانا بواسطة بكره، المجد لذاك الصّامت الّذي تكلّم بواسطة كلمته. المجد لذاك السّامي الّذي انحدر بإشراقه، المجد للرّوحانيّ الّذي ارتضى أن يصبح ولده جسدًا كي تُجَسَّ به قوّته، فتحيا بذاك الجسد الأجسادُ الّتي إليه تنتسب” (القدّيس مار أفرام السّريانيّ، من قصيدة في رتبة صلاة القومة الأولى من ليل الأحد الّذي يلي عيد الميلاد، في كتاب الفنقيث ܦܢܩܝܬܐ، وهو كتاب صلوات الآحاد والأعياد، الجزء الثّاني، صفحة 266).
الميلاد لا يتوقَّف عند بيت لحم، إنَّه يبدأ هناك، لكنَّه يمتدّ ليشمل كلّ من يسمح للمسيح أن يولَد في قلبه. عندها فقط، يصبح نور الميلاد قوّةً تغيّر العالم، لأنَّ الظّلمة لا تستطيع أن تقاومه.
6. نور الميلاد يشعّ في عتمة الحرب
في الميلاد، يعيد الله خلقَ العالم بتجسُّد كلمته، النّور الحقيقيّ الّذي أتى لينير “كلّ إنسان” (يو 1: 9). هذا النّور المشعّ في مغارة بسيطة وسط عتمة اللّيل، هو رمزٌ لقدرته على اختراق أقسى الظّروف وأكثرها ظلمة. إنّ نور الميلاد يناقض الحروب الّتي تبغي السّيطرة وسلب حرّيّة الأفراد والشّعوب، فقد جاءنا الميلاد ليعلن العدل والسّلام في خضمّ عالم تسوده أنانيّة المال والقوّة. ففي قلب النّزاعات الظّالمة والمظلمة، يصبح الميلاد علامةً على عمل الله في حياتنا.
بين النّور والظّلام، وبين الميلاد والحرب، يبقى الميلاد شهادةً ساطعةً على أنَّ الظّلام لن ينتصر البتّة، حتّى في أحلك الأزمنة وأكثرها تأزُّمًا. ويبقى النّور حاضرًا ليذكّرنا أنَّ الله لم يتركنا، وأنَّ محبّته قادرة على تجديد حياتنا. سلام المسيح لا يعتمد على غياب النّزاعات، بل ينبع من قلوب مليئة بالإيمان وعامرة بالرّجاء وفائضة بالمحبّة.
“إنّ نور المسيح هو حامل السّلام، وحده النّور العظيم الّذي تجلَّى في المسيح قادر أن يبدّد الحرب، ويهب النّاس السّلام الحقيقيّ. لذا كلّ الأجيال مدعوَّة لاستقبال النّور، الله الّذي صار واحدًا منّا في بيت لحم” (قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر، من رسالة عيد الميلاد 2007).
7. صدى العيد في عالمنا اليوم
منذ غابر الأزمان والشّرق يعيش مخاض الحرّيّة والتّحرّر من نير العبوديّة والحرب، ومع كلّ ميلاد نتطلّع إلى المخلّص الآتي إلينا بتواضع كلّيّ في مذود فقير، ليمنحنا الخلاص والنّور في ظلاميّة النّزاعات والمآسي الّتي نعيشها. وها نور ميلاد الرّبّ هذا العام يشعّ في عتمة الحروب الّتي طالت مختلف أوطاننا في الشّرق، مبشّرًا بنهايتها، وكلّنا رجاء بأن تنعم هذه البلدان بالأمان والاستقرار والحرّيّة والدّيمقراطيّة الحقيقيّة، لتعيش جميع مكوّناتها الإثنيّة والدّينيّة بأمن وسلام، وبالمساواة في الحقوق والواجبات.
في لبنان، كان رجاؤنا كبيرًا بانتهاء الحرب الّتي طالت هذا البلد لأشهر عدّة، وتوقُّف التّدمير والقتل الّذي تسبّبت به. رحم الله الضّحايا، ومنح الجرحى الشّفاء العاجل والتّامّ، وعسى أن يعود المهجَّرون والنّازحون إلى قراهم ومدنهم، ليعيدوا إعمار ما تهدّم. إلى الرّبّ مخلّصنا الّذي نحتفل بميلاده العجيب بيننا، نضرع كي تكون هذه المرّة الأخيرة الّتي يدفع فيها أبناء الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبيّة وسواهم في هذا البلد المعذَّب ثمن حربٍ فُرِضَت عليهم، وكان بالإمكان تفاديها من خلال اللّجوء إلى الحلول السّلميّة عبر الوسائل الدّبلوماسيّة والسّياسيّة.
وفي هذا الإطار، نذكّر المسؤولين اللّبنانيّين أنّه آن الأوان لإنهاء الفراغ القاتل في سدّة رئاسة الجمهوريّة، في دولة هي الوحيدة في المحيط العربيّ الّتي يرأسها رئيس مسيحيّ، فيبادر النّوّاب على الفور إلى انتخاب رئيس صاحب رؤية وطنيّة، جدّيّ، لا يساوم على مصالح اللّبنانيّين، لا يشارك في صفقات على حساب وطنه، ولا يُهادِن في سبيل حفظ سيادة أرضه وصونها من أيّ معتدٍ أو مسلَّحٍ أو غريبٍ، كائنًا من كان. ويُصار بعد انتخاب هذا الرّئيس المُنقِذ، إلى إعادة تشكيل السّلطة التّنفيذيّة بحكومة تكون سيّدة قرارها، تحترم الدّستور والقوانين والمواثيق والقرارات الدّوليّة وتطبّقها، ويسود أعضاءَها منطقُ حكم دولة القانون. صحيحٌ أنّ التّحدّيات جسيمة، وفي طليعتها معالجة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة الّتي يرزح البلد تحت ثقلها، والّتي سبّبت التّدهور الّذي طال مختلف المؤسّسات والإدارات العامّة والقطاع التّربويّ والتّعليميّ وسواه، وسلب الودائع المحتجَزة في المصارف. رجاؤنا أن يشعَّ نور الميلاد في قلوب اللّبنانيّين المتعطّشين إلى رؤية وطنهم ينهض من كبوته، ويحتضن أبناءه الّذين غادروه مرغَمين، لاسيّما الفئات الشّابّة، فيستفيد من كفاءاتهم، علّه يسترجع مكانته المرموقة في محيطه، كجوهرة الشّرق ولؤلؤة المتوسّط.
وسوريا الّتي عانت الأمرَّين طوال أكثر من ثلاثة عشر عامًا من حربٍ مدمّرة، إذ استباحت سيادتَها دولٌ وتنظيماتٌ عدّة، شرقًا وغربًا، وتسبّبت بهجرة ما لا يقلّ عن ربع الشّعب السّوريّ من أرض وطنه، سوريا هذه، نراها اليوم مقبِلةً على تحوّلات كبيرة تجعلنا في زمن الميلاد نصلّي إلى الطّفل الإلهيّ الآتي إلينا، كي يشرق نوره في عتمة الحرب، ويضيء ظلمة هذه الأيّام الحالكة، فتنتهي الأزمات العنيفة الّتي كادت تدمّرها. وهنا ندعو إلى انتقال سلميّ للسّلطة في سوريا، يوفّر لكامل شعبها السّلام والاستقرار والحرّيّة، وتسوده ثقافة المسامحة والمصالحة والمساواة وقبول الآخر، لا اللّجوء إلى التّشفّي والانتقام. كما نتمنّى من المسؤولين الّذين سيختارهم الشّعب السّوريّ ليتولّوا دفّة قيادة البلاد في المقبل من الأيّام، أن يساهموا في توطيد أواصر اللّحمة بين جميع المواطنين، فينتهجوا سياسة احترام حقوق مكوّنات الشّعب كافّةً، بتعدّديّة إثنيّاتها وقوميّاتها، والمحافظة على هويّة كلٍّ منها وعاداته وتقاليده ولغته، مع التّشديد على أنّ المسيحيّين بمختلف مذاهبهم هم مكوِّن أصيل ومؤسِّس في هذا البلد، ومن الواجب صون حرّيّتهم في ممارسة شعائرهم الدّينيّة، وفي التّعليم، والحفاظ على النّظام الخاصّ بأحوالهم الشّخصيّة، وإدارة أوقافهم.
كما نناشد المجتمع العربيّ والدّوليّ لتفعيل مساعي إعادة إعمار ما تهدّم خلال سنوات الحرب على مختلف الأصعدة، من بنى تحتيّة واقتصاديّة وزراعيّة وصناعيّة، كي ينهض هذا البلد ويعود إلى مصافّ الدّول المزدهرة.
وفي العراق، حيث التّحدّيات لا تزال كثيرة إزاء الأزمات السّياسيّة والاقتصاديّة، وحيث المكوِّن المسيحيّ هو أصيل ومؤسِّس، وله دور رياديّ في نهضة هذا البلد، نتمنّى أن يتابع أبناؤنا تقديم مساهمتهم في الحياة العامّة، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، أسوةً بشركائهم في الوطن، فيساهموا بكفاءاتهم في بناء بلدهم وتقدُّمه وازدهاره، مدنيًّا وحضاريًّا. ونأمل أن يتمكّن الّذين يتولّون زمام المسؤوليّة من تجنيب البلاد التّورُّط في حروب وصراعات محلّيّة وإقليميّة لن تقدّم سوى الدّمار والموت والأسى وازدياد الهجرة. كما أنّنا نرفع صلاتنا كي تتضافر جهود جميع المسؤولين الشّرفاء للوصول إلى استقرارٍ مستدامٍ لبلاد الرّافدين الغالية.
وفي الأراضي المقدّسة، الّتي منها انبثق نور الطّفل الإلهيّ المولود في بيت لحم، وانتشر في أرجاء المعمورة، نصلّي كي تنتهي الحرب والمأساة الّتي طال أمدها، وتنفَّذ القرارات الدّوليّة، من حلّ الدّولتين، وإنهاء الصّراع العربيّ الإسرائيليّ الّذي امتدّ لعقود طويلة. فليس هناك سلام دائم وشامل دون انتهاء الصّراع القائم، بحيث لا يحقّ للمخلّين والطّامعين أن يستغلّوا المشاعر الإثنيّة والدّينيّة، ويجهزوا على هذه القضيّة السّامية، فيورّطوا منطقة الشّرق الأوسط بحروب لا تنتهي. وإنّنا نحثّ المسؤولين على العمل الجادّ كي تمارَسَ التّعدّديّة وقبول الآخر، ليشرق نور الخلاص من جديد في هذه الأرض المباركة.
وفي مصر والأردنّ وبلدان الخليج العربيّ، نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السّلطات في هذه البلدان العزيزة في رعايتها شؤون المواطنين، وسعيها الدّؤوب لتأمين الرّخاء والازدهار، وسط جوٍّ من الألفة والمودّة والتّسامح.
وفي تركيا، نعتزّ بأبنائنا الّذين يستمرّون بتأدية شهادتهم للرّبّ في أرض الآباء والأجداد، والتزامهم بكنيستهم السّريانيّة، وعيشهم بحرّيّة وكرامة وبالمواطنة الكاملة، ونتابع مع الغيارى المساعي لاستعادة مقرّ بطريركيّتنا في ماردين.
وإلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا والأميريّكتين وأستراليا، نتوجّه بفكرنا الأبويّ ونحن نسعى جاهدين مع رعاتهم المباشَرين من أساقفة وكهنة كي نوفّر لهم الخدمة الكنسيّة الرّوحيّة والرّاعويّة، ونشجّعهم على التّمسُّك بإيمانهم بالرّبّ يسوع المخلّص، ومتابعة التزامهم بكنيستهم السّريانيّة وتقاليدها العريقة ولغتها وتراثها الثّمين، محافظين على أمانتهم للقِيَم والمبادئ والعادات الّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في أوطانهم الأمّ في الشّرق، ومخلصين لأوطانهم الجديدة الّتي استقبلَتْهم وفتحت أمامهم المجال واسعًا لبناء مستقبل زاهر لهم ولعائلاتهم بالحرّيّة والكرامة. كما نوصيهم أن يحافظوا على قدسيّة العائلة، وعلى تربية أولادهم التّربية المسيحيّة الصّالحة، في خضمّ تحدّيات العلمنة والإلحاد والإغراءات المتزايدة.
كما نحثّهم على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخويّ وانتماؤهم العائليّ والكنسيّ، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشّرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التّحدّيات، وتزداد الحاجات المادّيّة، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرّسل: “فعزمَ التّلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافًا للإخوة المُقيمين في اليهوديّة” (أع 11: 29).
ولا ننسى أن نجدّد صلاتنا إلى الرّبّ يسوع، المولود طفلاً في مذود بيت لحم، من أجل انتهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وحلّ كلّ نزاع في العالم بالحوار والتّفاوض والتّفاهم، والتّوقّف عن سفك الدّماء وتدمير البشر والحجر.
كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيّين، سائلين الله أن يرحم الشّهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشّفاء التّامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات الّتي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السّماويّة.
ويهمّنا أن ننوّه إلى أنّ قداسة البابا فرنسيس قد أعلن عام 2025 سنة يوبيليّة، حول موضوع الرّجاء، بعنوان “الرّجاء الّذي لا يخيِّب”، تُفتتَح ليلة عيد الميلاد. إنّنا نوجّه جميع أبنائنا وبناتنا الرّوحيّين في العالم لعيش هذا اليوبيل، فنفعِّل إيماننا المؤسَّس على الرّجاء بأنّ الله لا يتركنا، بل يبقى معنا وسطَ كنيسته، لنسير معًا خلال هذه السّنة كحجّاج رجاء، لاسيّما وقد أنهينا للتّوّ مسيرة السّينودس الرّومانيّ حول “الكنيسة السّينودسيّة: شركة ومشاركة ورسالة”. فالرّجاء النّابع من ثقتنا التّامّة بالله الّذي عليه اتّكالنا، كما ننشد في طقسنا السّريانيّ: “ܥܰܠ ܐܰܠܳܗܳܐ ܬܽܘܟܠܳܢܰܢ” ليس مجرّد تفاؤلٍ أو شعورٍ إيجابيّ أو أملٍ عابر تجاه المستقبل، بل هو فضيلة راسخة والتزام مستمرّ لصالح الخير لحياتنا وحياة الآخرين.
إلى طفل بيت لحم الإلهي نبتهل كي يُضحيَ يوبيل الرّجاء هذا “فرصة حقيقيّة لبلوغ وقفٍ لإطلاق النّار في كلّ النّزاعات الدّائرة في العالم”، على حدّ تعبير قداسة البابا.
كما سنُحيي عام 2025 ذكرى مرور ألف وسبعماية عام على انعقاد مجمع نيقية المسكونيّ الأوّل سنة 325، والّذي أقرّ أوّل إعلان للإيمان المسيحيّ، ضارعين إلى الرّبّ يسوع أن ينعم على المسيحيّين، بمذاهبهم المتنوّعة، بعطيّة الوحدة الّتي تُجسِّد الشّهادة للإيمان به ربًّا ومخلّصًا، وتؤكّد حقيقة التّلمذة له، والمحبّة الأخويّة المتبادَلة فيما بينهم.
8. خاتمة
في رسالته بمناسبة اليوم العالميّ الثّامن والخمسين للسّلام، بعنوان “أَعْفِنا ممَّا علينا، وامنحنا سلامك”، يدعو قداسة البابا فرنسيس إلى أن تكون “سنة 2025 سنة ينمو فيها السّلام! السّلام الحقيقيّ والدّائم، الّذي لا يتوقّف عند مراوغات الاتّفاقيّات أو على طاولة أنصاف الحلول الإنسانيّة. لِنَسْعَ إلى السّلام الحقيقيّ، الّذي يمنحه الله لقلب تجرَّد من السّلاح: قلب لا يتمسّك بأن يحسب ما هو لي وما هو لك، وقلب يُذيب الأنانيّة ويكون مستعدًّا ليلتقي بالآخرين… وقلب يتغلّب على اليأس من أجل مستقبل، كلّه رجاء، يؤمن أنّ كلّ إنسان هو غنى لهذا العالم” (الفقرة 13).
في هذا الزّمن الميلاديّ المقدّس، نسجد أمام المذود حيث وضعت مريم الطّفل يسوع بعد ولادته، ولفَّتْه بالأقمطة، رافعين الصّلاة مع البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني: “أيُّها الطّفل الإلهيّ، جفِّف دموع الأطفال، إشفِ المرضى، وحُثَّ المتحاربين على إلقاء أسلحتهم واحتضان بعضهم البعض في عناق عالميّ للسّلام. يا يسوع الرّحوم، أُدعُ الشّعوب إلى هدم الجدران الّتي خلقها البؤس والبطالة، والجهل واللّامبالاة، والتّمييز وعدم التّسامح. أنتَ، يا طفل بيت لحم الإلهيّ، أيُّها المخلّص الحقيقيّ الوحيد الّذي إليه تتوق البشريّة، إله السّلام، تعالَ واسكن في قلب كلّ إنسان وعائلة ومجتمع ووطن. كن سلامنا وفرحنا، آمين”.
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الرّوحيّون الأعزّاء، بركتنا الرّسوليّة عربون محبّتنا الأبويّة. ولتشملكم جميعًا نعمة الثّالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد، والنّعمة معكم. وكلّ عام وأنتم بألف خير.”